
منبر 24
في مساهمة بحثية دقيقة وميدانية للطبيب العسكري الفرنسي جوزيف هيربر (1873–1953)، نقلها إلى العربية الباحث رشيد دوناس ضمن العدد 15 من مجلة الدراسات الأمازيغية، يكشف الكاتب عن عالم غني وفريد من طقوس وتقنيات الوشم المغربي التقليدي كما كان يُمارس زمن الحماية الفرنسية، مشيرا إلى تنوعه وعمقه الثقافي والاجتماعي، بل وتعقيد أساليبه مقارنة بتجارب أخرى.
يشير هيربر إلى أن الوشم في المغرب آنذاك لم يكن مجرد عملية جمالية أو علامة هوياتية، بل كان فنا معقدا تمارسه نساء متخصصات بأساليب شديدة التنوع، تختلف من قبيلة إلى أخرى، بل ومن واشمة لأخرى، ما يجعل من الصعب تقديم وصف موحد وشامل لهذه الممارسة الشعبية. فبين استخدام الإبرة أو السكين، ومراحل تثبيت الألوان بين السخام والنيلة والزعفران، ثم تضميد الجرح بالأعشاب والحناء والخضيرة، كانت كل واشمة تطور تقنيتها الخاصة، في انسجام تام مع الموروث المحلي والمكونات النباتية المتوفرة.
كما تتطرق الدراسة إلى الطقوس الاجتماعية المرتبطة بالوشم، والتي لم تكن تقل ثراءً عن التقنيات ذاتها. ففي مناطق مثل أدار والرحامنة، كانت عملية الوشم مناسبة للاحتفال، تُقام فيها الولائم، وتُذبح الخراف، وترقص النسوة ويغنين، بينما تنشأ علاقات تضامن وصداقة دائمة بين الموشومات، في تعبير عن وحدة نسوية ثقافية وروحية.
ومن الملاحظات الطريفة التي يسجلها هيربر، أن بعض الواشمات كنّ يعملن في الخفاء مثل واشمة أيت إدراسن، بينما تحاط أخريات بالتبجيل وتُستقدمن من قبائل بعيدة ويُحتفى بهن كما في تنانت، حيث تُقبل رؤوسهن وتُغدق عليهن الهدايا.
الوشم، كما يصفه الطبيب العسكري، لم يكن مجرد زخرفة جسدية، بل مرآة لمجتمع تقليدي متعدد الهويات والطقوس والمعتقدات، بل وفضاء تلتقي فيه المعارف الشعبية مع الطب الطبيعي، والروابط النسائية مع أنماط العيش المحلية، في لوحة تنقرض اليوم شيئا فشيئا.