
كرة القدم في المغرب.. بين سحر الفرح وخديعة السياسة
في المغرب، كما في بلدان كثيرة، تجاوزت كرة القدم حدود الرياضة لتصبح ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، فهي الشغف اليومي للمغاربة، واللغة الوحيدة التي توحدهم في زمن الانقسام، والمرآة التي تعكس ملامحهم النفسية والجماعية، لكن حين تتقاطع هذه اللعبة مع حسابات السياسة، يصبح السؤال أكثر عمقًا: من يوظف من؟ هل الدولة تستغل الكرة لتهدئة الشارع؟ أم أن الكرة أصبحت هي التي تمنح الدولة شرعية رمزية وسط أزمات الواقع؟
منذ الإنجاز التاريخي لأسود الأطلس في مونديال قطر 2022، ترسّخ عشق المغاربة لكرة القدم بشكل غير مسبوق، كانت لحظة جماعية نادرة أعادت الثقة في الذات، وأيقظت روح الانتماء والاعتزاز الوطني…الدولة التقطت الرسالة بسرعة، فحوّلت هذا الزخم إلى عنصر مركزي في خطابها الداخلي والخارجي: مزيد من الاستثمارات في الملاعب، واستعداد مكثف لاستضافة كأس العالم 2030، وتسويق صورة المغرب كقوة رياضية إفريقية صاعدة، كل ذلك مشروع وطبيعي في سياق تنموي جديد، لكن خلف هذا النجاح الظاهر، تُطرح تساؤلات لا يمكن تجاهلها: هل يُستعمل البريق الرياضي لتغطية إخفاقات في مجالات أخرى؟ وهل يمكن أن يتحول الفرح الكروي إلى بديل عاطفي عن الإصلاح الحقيقي؟
الدولة تدرك جيداً سحر كرة القدم وقدرتها على صناعة الإجماع الشعبي، فحين يفوز المنتخب، يتوقف كل شيء: ترتفع الأعلام، تُنسى الأزمات، وتُعلن هدنة غير معلنة بين المواطن والواقع، في تلك اللحظات، لا أحد يتحدث عن الأسعار أو التعليم أو البطالة، إنها “سياسة الفرح المؤقت”، التي تمنح للحكومة فسحة من الهدوء في مقابل نشوة جماهيرية تعم البلاد و العباد.
لكن، النقاش يصبح أكثر حساسية حين تدخل المعارضة على الخط، فبعض القوى السياسية، حين تنتقد السياسات الحكومية، قد تُغريها فكرة مهاجمة ما تسميه “استغلال الدولة لكرة القدم”، غير أن هذا النوع من النقد، إذا لم يكن متزناً، قد يرتدّ على أصحابه، لأن كرة القدم في المغرب ليست مجرد مشروع حكومي، بل هي عشق شعبي أصيل يسكن وجدان الناس، من يعارض الدولة من خلال الكرة، يبدو في أعين الجماهير وكأنه يعارض فرحتهم نفسها، وهنا يكمن الخطر: الاصطدام مع الشغف الجماهيري يعني خسارة المعركة قبل أن تبدأ، لأن لا أحد يقبل أن يُزايد عليه في حب المنتخب أو في لحظات الفرح الوطني.
على المعارضة أن تكون ذكية في هذا الباب، النقد مطلوب، لكن بذكاء عاطفي وسياسي، يمكنها أن تطالب بتوازن بين الاستثمار في الرياضة والاهتمام بالتعليم والصحة والتشغيل، دون أن تمس رمزية الكرة أو تُشكك في شغف الناس بها، فالمغاربة قادرون على التمييز بين الفرح الرياضي والخيبة الاجتماعية، لكنهم لا يقبلون أن يُحوَّل عشقهم إلى موضوع للمزايدات السياسية.
تقتضي الحكمة أن تبقى كرة القدم فضاءً يوحّد المغاربة بدل أن يفرّقهم، ومصدراً للفرح لا ساحةً للصراع، فالدولة مطالَبة بألّا تجعل منها وسيلة لتنويم و تخدير الوعي، والمعارضة مطالَبة بألّا تحوّلها إلى ميدان لتصفية الحسابات، لأن التقاء السياسة بالشغف الشعبي، إن لم يُدرَك بذكاء، قد يقود إلى خسارة الجميع.
التجارب في أمريكا اللاتينية تُظهر أن الأنظمة التي استغلت كرة القدم لحجب الأزمات، والمعارضات التي استخفت بعشق الجماهير للكرة، انتهت كلتاهما إلى فقدان ثقة الناس، لأن الشعوب تحب من يفهم مشاعرها، لا من يحتقرها أو يتلاعب بها.
كرة القدم في المغرب ليست أفيوناً بالمعنى السلبي، لكنها قد تصبح كذلك إذا استُعملت للهروب من مواجهة الواقع، أما السياسيون، من سلطة ومعارضة، فعليهم أن يدركوا أن اللعب في ميدان الشغف الجماهيري يحتاج إلى مهارة أكثر من تلك التي تُطلب في الملاعب.