العاشر من رمضان، تاريخ لطالما ارتبط بذكرى بئيسة ترسخت في أذهان المغاربة، يوم تتقلب فيه المواجع، وتحن الذكرى لصورة قائد ضخ الحياة في عروق شعب أثقلت كاهله ربقة الاستعمار.
قبل 59 سنة، تحديدا عام 1961 الموافق ل1380 هجرية، صعق الشعب المغربي برمته بخبر وفاة قائدهم الذي اعتق رقابهم من وطأة الاستعمار الفرنسي، توفي الملك محمد الخامس، فتعمق الجرح القديم للأمة ولحركات المقاومة والتحرير، التي كانت ترى فيه أحد أبرز أقطاب حركة التحرر الوطني ورمزا لكفاح الشعب من أجل الظفر بالاستقلال والكرامة والتقدم.
فبات المغاربة يخلدون، في العاشر من رمضان من كل سنة، ذكرى وفاة بطل التحرير، ويجددون الرحمات على ملك لطالما رسخ بمبادئه الإنسانية والوطنية، فظل متشبثا بوحدة بلاده والتحام وتوحيد شعبه، الذي كان ممزقا خلال مرحلة الحماية، كما طالت جهوده أيضا إنقاذ اليهود المغاربة وجاليات الدول الأخرى، الذين كانوا يشكلون أقليات دينية حينها، إضافة إلى دعمه اللامشروط لاستقلال الجزائر.
أوقدت وفاة محمد بن يوسف، التي باغثته في ربيعه الثاني والخمسين، جدلا عميقا لدى المغاربة وتناسلت إثرها العديد من الأسئلة حول العملية الجراحية التي خضع لها، بعد إصابته بوعكة صحية، والتي قيل أنها تمت بتفريط وتساهل.
” كلوا واشبعوا، ستأكلون قريبا في مأتم ملككم”، هذا ما قاله الراحل محمد الخامس خلال فطور كان قد نظمه، وحضرته الراحلة فاطمة أوفقير، التي ذكرت في روايتها “حدائق الملك”،أنها عندما استفردت به أخبرها بأنه يتألم بشكل كبير.
إذ تداولت روايات عديدة، من بينها رواية الراحل عبد الله إبراهيم، الذي قاد حكومة 1958، وفاطمة أوفقير، أن السلطان كان يعاني من سرطان في الأذن، أدى به ألمه الفظيع إلى اللجوء للتدخل الجراحي رغم نصح الأطباء بعدم اللجوء إليه، لترحل الروح إلى باريها بسبب اكتشاف الأطباء عدم توفر بعض المعدات الطبية وفصيلة دم الراحل النادرة أثناء العملية.
فاهتزت شوارع المملكة واعتلت أصوات النحيب والبكاء، عاكسة اللحمة القوية التي تربط بين الشعب المغربي والعرش العلوي المجيد، نفس الترابط الذي عبر عنه الملك في خطاب طنجة الشهير الذي، ورغم كل الضغوط التي كانت تمارسها عليه قوات الاستعمار، تشبت فيه بوحدة الوطن وطالب شعبه بمزيد من الصمود والمقاومة لتحرير البلاد ونيل الاستقلال.
واستمر سيدي احمادي، وهو اللقب الذي كان يطلق على محمد بن يوسف في مدينة فاس حيث ترعرع في القصر الملكي تلقى تعليمه على الطريقة المغربية التقليدية العتيقة، عبر دروس عربية دينية تتخللها دروس مبادئ اللغة الفرنسية إلا أنه لم ينقنها جيدا، في رفض الخنوع لمطالب الاحتلال الفرنسي، وبات يرفض التوقيع على المراسيم والظهائر، ما دفع الفرنسيين إلى نفيه، في 20 غشت 1953، رفقة عائلته إلى مدينة كورسيكا، ثم تم نقله بعدها، في 2 يناير 1954، إلى مدغشقر.
إلا أن زعيم الاستقلال لم يأبى الخضوع والتنازل عن عرشه رغم كل المحاولات والتهديدات الفرنسية، والشيء عينه عبر عنه المغاربة أجمعين وعلى رأسهم الحركة الوطنية، الذين قاموا بانتفاضة قوية تعبيرا عن غضبهم من تنحية ساطانهم، التي تزامنت مع فترة الاحتفال بالعيد الأضحى، فتبلورت أحداث ثورة رسخت في التاريخ، ثورة ملك وشعب، صعدت المقاومة ضد المحتل، وتظافرت المظاهرات بتأطير من حزب الاستقلال.
ثورة تخللها سخط عارم في صفوف الشعب المغربي، ووقدت أحداثا دموية شرسة في عدد من المدن والبوادي ورفض قاطع لتنصيب ابن عرفة كسلطان للمغرب، فلم يجد الفرنسيون من منفذ سوى إرجاع السلطان الشرعي لعرشه وشعبه، فانبثق الأمل من جديد وأطلت شمس أطالت في غروبها، وعاد محمد الخامس الى المغرب، في 10 نونبر 1955.
يوم تغلغت فيه الزعاريد في كل الجدران والأزقة، معلنة عرسا صاخبا موكبه طائرة تحط سلطانهم المنفي رفقة عائلته، وبعودته استمر في قيادة النضال بعزم وكفاح حتى توج بلده بوثيقة استقلاله في الثامي من مارس عام 1956، فاسترجع منطقة الحماة الفرنسية.
وغاص بن يوسف من جديد في رحلة استكمال الوحدة الترابية، فأام عدة مفاوضات مع اسبانيا انتهت بتوقيع معاهدة مدريد في 7 أبريل 1956، مزيلا بذلك الحدود الوهمية التي وضعتها كل من فرنسا واسبانيا في المغرب طيلة 43 سنة بين المنطقتين الخليفية والجنوبية.
فتوهجت أعين المغاربة كلها عقب تحقيق حلم لطالما طال انتظاره، وتجمهرت حول أب الأمة الذي قادها بكل جدارة نحو خلاصها، والأعين ذاتها سالت بعد سنوات على رحيله الى جوار ربه، ولم يعد بوسعها سورى تخليد ذكراه في كل سنة امتنانا وتعبيرا عن وفائها لمجهوداته وكل ما قدم لها من تضحيات جسام.