عبد الكريم الموسي
في أجواء الاحتفال بذكرى المسيرة الخضراء، هذا الحدث التاريخي الملهم الذي أطلقه ملكنا الغالي جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، باني السدود وحامي الحدود ومحرر الصحراء، لتوحيد المغاربة وتعزيز ارتباطهم بالأقاليم الجنوبية، تتجلى أهمية الأعمال الفنية والتوثيقية التي تعكس عراقة الصحراء المغربية وأصالتها. لقد كان جلالته رمزاً للرؤية البعيدة والحكمة في صون الهوية الوطنية وتعزيز الروابط التاريخية بين مختلف مكونات الشعب المغربي.
وفي هذا الإطار، يأتي عمل الأستاذ عبد الكريم الموسي، باحث ومهتم بالشأن الصحراوي، ليعيد إحياء تاريخ الصحراء المغربية من خلال خريطة دقيقة تعود إلى سنتي 1506م-1507م. تسلط هذه الخريطة الضوء على الأماكن التي استوطنتها القبائل الصحراوية، مثل الرقيبات، أولاد دليم، قبائل تكنة، وقبيلة دوبلال، مانحةً كل قبيلة مكانتها الجغرافية والاجتماعية الخاصة. يعكس هذا العمل الفني جزءاً من التاريخ المغربي العريق، موثقاً العلاقات بين القبائل الصحراوية وروابطها الممتدة مع مختلف مناطق المملكة، مما يبرز عمق الوحدة الوطنية التي رسخها الحسن الثاني كركيزة أساسية في صرح الأمة المغربية.
ومواصلةً لهذا النهج الحكيم، يأتي جلالة الملك محمد السادس ليعزز هذه الوحدة الوطنية ويرسخ قيمها من خلال مشاريعه الكبرى ومبادراته التنموية. فقد أطلق رؤى استراتيجية، مثل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، مع التركيز على الحفاظ على التراث الثقافي كوسيلة لصون الهوية المغربية وتعميق الروابط بين الماضي والحاضر. يعكس هذا الامتداد الطبيعي للسياسة الملكية رؤية متكاملة تُبرز أهمية التوثيق التاريخي، مثل خريطة عبد الكريم الموسي، في توطيد العلاقة بين مختلف مكونات الأمة
القبائل الصحراوية في القرن السادس عشر: النفوذ الجغرافي والمجالي
على خريطة الباحث عبد الكريم الموسي، يظهر بوضوح توزيع القبائل الكبرى في الصحراء، ومنها الرقيبات، أولاد دليم، قبائل الشرفاء، قبائل تكنة، وقبيلة دوبلال، حيث تبرز كل منها ضمن مواقع استراتيجية تستجيب لطبيعة الحياة البدوية والتجارة القبلية.
• قبيلة الرقيبات: تركز تواجد قبيلة الرقيبات في الجنوب الصحراوي، خاصةً حول منطقة وادي الذهب، حيث مثلت القبيلة قوة اقتصادية مؤثرة من خلال التحكم في طرق التجارة والقوافل، مسيطرةً بذلك على مواقع استراتيجية وممرات حيوية.
• أولاد دليم: شكلت أولاد دليم قبيلة بارزة في منطقة طرفاية والسواحل القريبة منها، حيث تميزت بموقعها الاستراتيجي المطل على البحر، ما أتاح لها التواصل مع بقية المناطق المغربية واستغلال الموارد البحرية، لتكون رابطًا بين القبائل الصحراوية ومناطق المغرب الأخرى.
• قبائل تكنة: استقرت قبائل تكنة في مناطق قريبة من السمارة وضواحيها، وهي قبيلة معروفة بتنوع نشاطاتها الزراعية ورعي الماشية، مما ساعد على تعزيز التواصل والتفاعل الثقافي مع القبائل المجاورة، وكانت تمثل مركزًا هامًا للتبادل التجاري وتنسيق العلاقات بين القبائل.
• قبيلة دوبلال: تنتشر قبيلة دوبلال في المناطق الصحراوية الشرقية، حيث اعتمدت على الرعي والتجارة، وتميزت بتواصلها مع القبائل المجاورة عبر شبكة من المسالك البرية، مما جعلها حلقة وصل بين مناطق
• الصحراء ووسط المغرب.
الخريطة كأداة توثيق تاريخية للتواصل والتعاون القبلي
تبرز الخريطة الحيز الجغرافي الدقيق لكل قبيلة، مما يعكس حدود مناطق استقرارها ويظهر التوزيع المكاني للقبائل الصحراوية. يعكس هذا التوزيع الجغرافي العلاقات الوطيدة بين القبائل، ويؤكد على تواصلها وتعاونها، حيث كانت القبائل تتحالف لحماية مناطقها والدفاع عن مصالحها المشتركة ضد أي تهديد خارجي. يظهر هذا العمل بذلك التماسك القبلي القوي الذي أسهم في استقرار النظام الاجتماعي وتلاحم الجماعات الصحراوية في تلك الحقبة.
ارتباط الصحراء بباقي المغرب: ترسيخ جذور الوحدة الوطنية
تكشف خريطة التوزيع القبلي خلال القرن السادس عشر ميلادي عن عمق الارتباط الجغرافي بين القبائل الصحراوية وباقي التراب المغربي، حيث كانت طرق التجارة تمتد نحو الشمال لتصل إلى المدن المغربية. كانت القبائل الصحراوية جزءًا من الاقتصاد المغربي ككل، حيث ساهمت في نقل السلع وتعزيز التواصل بين المناطق الجنوبية والشمالية، ما يُبرز ترابط المصالح المشتركة التي ساهمت في تعزيز الوحدة الوطنية.
دلالات اجتماعية وثقافية: النسيج القبلي والتعايش الصحراوي
تُعبر الخريطة عن التماسك الاجتماعي بين القبائل من خلال استقرار كل منها ضمن حدود واضحة المعالم، مما يعكس الروح الجماعية والولاء القبلي المشترك. إذ كانت القبائل تتميز ببنياتها التنظيمية، حيث ينقسم كل تجمع إلى عائلات تحمل قيماً مشتركة تتيح لها الصمود أمام ظروف الصحراء.
دور الخريطة التاريخية في توثيق التوزيع القبلي بالصحراء المغربية
تظل هذه الخريطة وثيقة غنية بالمعلومات حول القبائل الصحراوية في القرن السادس عشر، حيث تسلط الضوء على نظامها القبلي وعلاقتها الوثيقة بباقي المغرب. إنها توثيق تاريخي يثبت أن الصحراء المغربية لم تكن منعزلة، بل جزءًا لا يتجزأ من المغرب، حيث تتشابك مسارات التواصل وتترسخ جذور الوحدة الوطنية، مما يعكس تاريخًا مشتركًا بين القبائل والمناطق المغربية التي تميزت بصلابة وعراقة تتواصل عبر الأجيال.