“وراء كل رجل عظيم إمرأة”. قول طالما تردد على أسماعنا ونحن نستحضر إسهام وتضحيات النساء في إنجازات ونجاحات الرجال من وراء ستار. لكن العديد يطرح السؤال: من يقف وراء النساء العظيمات؟ الزمن القديم والمعاصر خلد للمرأة مواقع ومواقف العديد منها غير مجرى التاريخ ودخل سجلاته. فهذه المخلوقة المثيرة، الفذة بحسنها، وذكائها، ودهائها، وحنوها وقوتها الهادئة، إجتمع فيها ما تفرق في غيرها.
أنثى الإنسان كانت حاضرة في العديد من حضارات ما قبل التاريخ، بل كانت فاعلة حتى في مجتمعات الصيد وجمع الثمار (chasseurs-cueilleurs) فكانت نصف الحياة إن لم تكن رمزا لها ومعيارا لخصوبتها.
بعد تنامي الحركات النسوية التي عرفها العالم خلال القرن الماضي، تشكل وعي جديد حول مفهوم “المرأة الخارقة” (Wonder Woman/ Superwoman) وهو في الواقع مفهوم مستوحى من مؤلف للكاتبة Marjorie Hansen Shaevitz بعنوان “متلازمة المرأة الخارقة” (The Superwoman Syndrome). وهو مصطلح أعتمد في علم الإجتماع للدلالة على الأدوار المتعددة التي تقوم بها المرأة: أي ممارسة الدور التقليدي الأنثوي في البيت، وكذا الأدوار الذكورية التقليدية المتعلقة بالمسار الإداري والمهني.
وقبلها، أي سنة 1922, توصل الكاتب و العالم النفسي الأمريكي William Moulton Marston، مخترع إختبار “ضغط الدم الإنقباضي” ( Test de Pression Sanguine Systolique) الذي يعتبر أساس إختراع جهاز كشف الكذب (détecteur de mensonge)، إلى قناعة أبانت عنها كشوفاته وإختباراته، مفادها أن المرأة أكثر صدقا ووثوقا من الرجل. بل هي أكثر فعالية وسرعة ودقة في الإنجاز مقارنة مع زميلها الرجل. وقد إستدل على ذلك من خلال بحوث عدة قادها لإثبات أن النساء عضوات هيئة المحلفين بالمحاكم الأمريكية هن أكثر وثوقا من الرجال، بعدما كان هذا المنصب محضورا على النساء في أكثر من 31 ولاية أمريكية.
هذه القناعة دفعت Martson، فيما بعد، إلى إبداع مسلسل تلفزيوني بعنوان “المرأة الخارقة” (Wonder Woman) الذي إستحوذ على الشاشة خلال منتصف السبعينات من القرن الماضي. تلته إبداعات فنية أخرى لعل أبرزها أغنية الفنان الأسطورة Superwoman” Stevie Wonder”، وأعمال سينيمائية أخرى لازالت تتناول موضوع “المرأة الخارقة” إلى اليوم.
والحقيقة أن التاريخ ساق لنا نماذج للمرأة الخارقة بكل معاني البطولة والشجاعة والإقدام والإصرار على الإنجاز والنجاح. نساء كن قدوات صالحات ومنائر هاديات ومحاربات مشاكسات. كما جاء في موسوعة الكاتب والباحث عبد الحميد ديوان “أشهر النساء”، والمؤرخ والباحث الموسوعي السوري عمر رضى كحالة من خلال موسوعته “أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام”. مؤلفات إلى جانب أخرى، تعرضت للتجاذب الأبدي بين الرجل والمرأة. ففكرة السيطرة الذكورية لم تكن دائما هي الأساس. حيث برزت نساء عرفن كيف يطوعن عناد الرجال، وكيف يخضعن الواقع الذكوري لسلطتهن وتفوقهن، فكسرن بذلك القاعدة وبصمن على التاريخ.
راعية الفنون، أم البنين، فاطمة الفهرية سليلة عقبة بن نافع، أسست بمعية شقيقتها مريم الفهري “جامعة القرويين” بفاس سنة 859م. فوضعت بذلك أول لبنة للعلم والتحصيل الجامعي، باعتبار “جامعة القرويين” أول جامعة ترى النور في العالم. مانحة بذلك قصب السبق الجامعي والمعرفي للمغرب والعالم العربي والإسلامي.
“كنزة الأَوْرَبية” من قبيلة “أوْرَبة” الأمازيغية. كانت، حسب الروايات، ذات جمال وحكمة وحصافة ودين. يحسب لها دعم أركان أول دولة إسلامية في المغرب. هي زوجة المولى إدريس الأول الذي فر من بطش أبناء عمومته العباسيين في الشرق، وإحتضنته قبيلة أوْرَبة قرب مدينة زرهون، أول عاصمة إسلامية بالمغرب وإفريقيا. وهي طبعا أم المولى إدريس الثاني الذي تولى مقاليد الحكم في سن الحادية عشرة سنة بعد مقتل أبيه إدريس الأول. وبتوجيهات من أمه كنزة وإرشادها إستطاع المولى إدريس الثاني من إستكمال مشوار أبيه، بدأ من إتمام بناء العاصمة فاس مرورا بتوسيع تخوم الإمارة وهو ما أصبح مصدر إزعاج للحكم العباسي. وحتى بعد الموت المفاجئ للمولى إدريس الثاني، ظهرت كنزة، القابضة لزمام الأمور، لتشير على الأحفاد التسعة كيف يحافظون على الملك. فعينت الحفيد البكر سلطانا وأرسلت إخوته الثمانية عمالا على مناطق مملكتها. وتمكنت، رغم تربص الخلافة في الشرق، من إقامة أول دولة إسلامية في المغرب الأقصى. مما جعلها تصنف من أعظم النساء في تاريخ المغرب.
“جميع من بإفريقيا من الرومان منها خائفون، وجميع الأمازيغ لها مطيعون” هكذا وصف المؤرخ ابن عذارى المراكشي الملكة الأمازيغية ديهيا الملقبة ب “الكاهنة”. بعد وفاة زوجها وصلت ديهيا إلى سدة الحكم خلفا له. فأحكمت قبضتها على شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس وليبيا) وأصبحت ملكة وقائدة عسكرية ترتعد لها الفرائص، وتزرع مواكبها الرعب أينما حلت وإرتحلت. شنت حروبا على الرومان وألحقت بهم أشد الهزائم. كما هزمت القائد العربي حسان بن النعمان، قائد الفتوحات في إفريقيا، في موقعة “بجاية” خلال عهد بني أمية في القرن السابع للميلاد. وطردت جيوشه وتعقبتها حتى حدود مصر. عاد حسان بن النعمان بعد سنوات وبعد أن تلقى المدد من عبد العزيز بن مروان أمير مصر ليواجه “الكاهنة” في معركة حملت إسمها عرفت بمعركة “بئر الكاهنة”. لتفارق الحياة وهي تحارب بشراسة في الميدان.
زينب تافنزاوت، أشهر النساء الأمازيغيات في عهد المرابطين و “إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة” كما وصفها إبن خلدون. تناولت شخصيتها المخرجة المغربية فريدة بورقية من خلال إبداع سينيمائي لها بعنوان “زينب زهرة أغمات”. وهو إستدعاء لشخصية ساهمت بشكل فارق في صنع تاريخ دولة المرابطين. كانت زينب بارعة الجمال والحسن والخلق والعقل. لقبت بزوجة الملوك، ومن أجلها شرع السلطان أبي بكر بن عمر اللمتوني في بناء مدينة مراكش. ليستكمل يوسف بن تاشفين، الذي إتخذها زوجة له فيما بعد، بناء العاصمة مراكش. عرفت بمهندسة توسع دولة المرابطين ومثبتة أركان الدولة المرابطية التي إخترقت شبه الجزيرة الإيبيرية وسيطرت على بلاد الأندلس.
“إمرأة ذات جمال وعلم وفقه وسياسة وأدب” هكذا وصف المؤرخون “خناثة بنت بكار” زوجة المولى إسماعيل وأم السلطان عبد الله بن إسماعيل. هي أول إمرأة تتولى الوزارة في المغرب في حكم الدولة العلوية، أي مطلع القرن الثامن عشر، قرنين قبل الكاتبة والمناضلة الشيوعية الروسية Alexandra Kollontaï التي تعتبر أول إمرأة تشغل منصب وزيرة في التاريخ الحديث. تولت تربية ورعاية حفيدها السلطان محمد بن عبد الله، ولعبت دورا أساسيا في صلح السلطان عبد الله مع قبائل الودايا.
كما ينسب إليها تثبيت اتفاقية السلام والتجارة مع بريطانيا العظمى، كما ورد في المراجع الإنجليزية التي ذكرتها بإسم “كوينتا”.
هذه فقط بعض نماذج أنثى الإنسان الخارقة، وهي ليست إلا غيض من فيض لنساء إنتفضت كرامتهن وأبين إلا أن ينسجن التاريخ من خلال مواقف بطولية ومواقع سلطوية أثبتن للذكور أنهن لسن أقل شئنا و دراية بدواليب الحكم والريادة، بل برهن على علو كعبهن وصدق رؤيتهن. فالوجوه الذكورية ليست وحدها رمزا للدفاع عن الأرض والكرامة، ولم يكن لها لوحدها براءة العلم والمعرفة وشن ثورات التحرير ضد القهر والظلم والعبودية. بل برزت نساء عظيمات أشهرن القوة، وأحيانا الدهاء والحكمة للحفاظ على كيان الشعوب. بدأ من ملكة العرب “ماوية” وملكة تدمر “زنوبيا” مرورا بالمحاربة الثورية الكوبية “سيليا سانشيز” و “أني باتشن” الملقبة بي “جان دارك” التبت، و “كورازون أكينو” بالفيليبين، أهم رموز الثورات السلمية في العالم، إلى جانب “ليما غبوي”، الناشطة الحقوقية والنسوية، والتي أوقفت النزاع الأكثر دموية في تاريخ القارة السمراء في بلدها ليبيريا.
نعم إنها المرأة الخارقة التي يحق لنا أن نفخر بها ونعتز بحضورها وإنجازها. تساءل أحدهم كيف يهزم مجتمع تقف فيه إمرأة وراء كل رجل؟ وعقب آخر، النساء لايشاركن في الحكم، يدعن الحكم للرجال طالما يحكمن الرجال. جاء في القول المأثور: بالنار يختبر الذهب وبالذهب تختبر المرأة وبالمرأة يختبر الرجل. فالتملك بالنسبة للرجل نهاية، ولكن بالنسبة للمرأة ليس إلا بداية. فلا تكابر برجولتك على المرأة، فمن علمك الرجولة إمرأة. “قولوا عن المرأة ما تريدون، فهي تفعل فيكم ما تريد”. فتحية لكل نسائنا العظيمات.