اعلان
عندما يسقط القناع، يظهر الوجه الحقيقي. و هو قول مأثور عند الفرنسيين،
( les gens ne changent pas ils se révèlent )الأفراد لا يتغيرون، و إنما تنكشف حقيقتهم. و كما الفرنسيين، إشتهر قول عند العرب “كم من وجوه أَقْنِعَةْ، و عيون خادعة”. ولنا في طفولتنا، نحن جيل الأَنْمِيَاتُ اليابانية الشهيرة “جريندايزر” و “النمر المقنع”، حكايات ممتعة, و نحن نتابع بشغف كبير فصول الصراع بين الخير و الشر، بين الطيب و الخبيث. فكان البطل شخصية مقنعة تصارع التسلط و الظلم و تُنَاصِرُ الحلم و العدل. لكنها تظل متوارية عن الأنظار لحكمة رصدتها عينها، في سياق فسد فيه الناس، و ضاع الزمان، فلا أمان. لكن و عند إقتراب النهاية يسقط القناع، ليظهر و جه البطل في سيناريو مشوق محبوك.
اليوم نعاين نفس القناع، لكن بسيناريو معكوس، و أقل تشويقا. كيف؟ تفشي الوباء أماط اللثام عن يوطوبيا الغرب، منذرا بآخر حلقات نهاية الحلم الأوروبي رغم إمتداد الاتحاد. حيث بدأت الشكوك، وهي ليست وليدة اليوم، تحوم أكثر حول مستقبل المشروع الإندماجي للقارة العجوز التي تصدرت العالم إستنادا على نسقها القيمي و الذي مكنها من ريادة الكون لقرون عديدة.
وإذا كان المفكر الأمريكي Jeremy Rifkin، وهو مهندس خطة الإتحاد الأوربي لمواجهة الأزمات، قد تعرض في كتابه “الحلم الأوروبي” الى “التفوق الهادىء” للحلم الأوروبي على نظيره الأمريكي في مقارنة بينهما، فإن الرد جاء صاعقا من خلال مؤلف “أوروبا الوهمية” (L Europe Fantôme) للكاتب الفرنسي المتمرد Régis Debray و الذي لم يترك هامشا للشك حول إفلاس المشروع الإندماجي لأوروبا. ولعل أهم ما ركز عليه Debray هو تفكك القيم الروحية و الفكرية التي كانت أساس إشعاع أوروبا و تملكها للعالم.
عند بداية تفشي الوباء، ظهر إرتباك، يوشك على التناقض أحيانا، في تصريحات المنظمة العالمية للصحة. فخرجت بتطمينات و نصائح حول الأقنعة، موصية بضرورة إرتداءالمصابين لها و الأطقم الطبية فقط. لتخرج فيما بعد دول كثيرة توصي، عكس المنظمة، كل مواطنيها بضرورة وضع الأقنعة الطبية عند الخروج من المنزل. لتعود المنظمة متداركة، عكس توصيتها الأولى، وتحث الجميع على إرتداء القناع. لتعلن بذلك صافرة حرب لم تتنبئ بها حتى أبدع سيناريوهات الأفلام المستقبلية، وهي حرب الأقنعة. إنهارت معها قيم التَغَنِي بالإنسانية، و أنشودة التضامن، و شعار التكامل، و قواعد السوق وأعراف التبادل التجاري.
إيطاليا الجريحة تقف مشدوهة أمام جمهورية التشيك و هي تستحوذ على حمولة أقنعة طبية قادمة من الصين، ليست إلا مجرد هبة من الجمهورية الشعبية للسلطات الإيطالية. أوكرانيا تتهم روسيا. ألمانيا و كندا و فرنسا يتهمان الولايات المتحدة. و هذه الأخيرة تنفي وتفند. لتعود و تمنع أكبر شركاتها من تصدير معدات و أجهزة التنفس الطبيعي إلى كندا و دول أمريكا اللا تينية. متنكرة لإتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية المعدلة NAFTA. و التي شكلت موضوع مفاوضات لمدة ثلاث سنوات. Justin Trudeau رئيس وزراء كندا, الذي أغلق حدود بلاده أمام العالم إلا على الجارة الأمريكية، قبل أن يَعْدُلَ عن قراره، ويخرج بإدانة لقرار إدارة ترامب و يذكرها، إن كانت الذاكر لا تسعفها، أنها لا زالت تستورد معدات طبية هامة من كندا. الرئيس المدير العام لأكبر شركة للمعدات الطبية بأمريكا يقر بالتعليمات الصارمة للإدارة الأمريكية بعدم بيع المعدات الطبية خارج التراب الأمريكي. و يعترف “بالتداعيات الإنسانية الكبيرة” لمثل هذه القرارات.
طبيبان من أهم متخصصي علم الأوبئة في فرنسا، و على الهواء، يتباحثان في إمكانية تحويل الأفارقة الى فئران تجارب ( des cobayes) للتأكد من فعالية لقاح محتمل. ليعود أحدهما ويقدم إعتذارا. ولو أن الإعتذار يجب أن يقدمه أيضا من طرح السؤال المستفز، كما إعترف بذلك، و كما كان يظهر في حركاته القلقة و الشرود المتكرر لِمُقْلَتَيْهِ.
وُصِفَت الدبلوماسية من طرف الكثير على أنها تعاون و تآزر لجني مكاسب سياسية و إقتصادية بين البلدان. فهل لهذا التعريف ما يبرره اليوم؟ سيما و أننا أصبحنا، كما نَعَتَ ذلك أحد المحللين، أمام “دبلوماسية الأقنعة”، و حقيقة الأمر أننا أمام أَقْنِعَةُ الدبلوماسية. سقطت ورقة التوت سهوا، في ظل الجائحة، عن المنظومة الليبرالية المُعَولَمَةُ، في شقيها الإنساني و الاجتماعي، ليتضح للعيان حقيقتها الصارخة. فهل سترتدي قناعا جديدا بعدما أسقط الوباء القناع الحقيقي؟ ذكر المؤرخ الأمريكي، John W. Baldwin، و الذي عاش طويلا في فرنسا، ما يشبه ما نعيشه اليوم قائلا “نخاف أن لا نحيا بدون أقنعة، ونعلم أننا لن نحيا بداخلها”. أكيد سنواجه الكثير من الأقنعة. و القليل من الوجوه. كما قال الروائي الإيطالي Luigi Pirandello.
اعلان