رؤية استيباقية و ترسانة تدبيرية ممأسسة في ظروف قياسية لتطويق وباء كوفيد 19 ، واكبتها حملة “خليك فدارك ! ” ؛ تدعو للاحتماء بالبيوت وعدم الاختلاط لتفادي العدوى و انتشار الفيروس .
“الدار “أو “المسكن” أو “البيت “أو “المنزل ” مراتع الأمان لتفادي عدوى الفيروس ؛فضاءات مختلفة في مكوناتها متحدة في رمزيتها تثير فضول تعرف الفروق بينها .
البيت كما جاء في كتاب الكليات لأبي البقاء الكفوي : “البيت هو اسم لمسقف واحد له دهليز و المنزل اسم لما يشتمل على بيوت و صحن مسقف و مطبخ يسكنه الرجل بعياله . و الدار لما اشتمل على بيوت و منازل وصحن غير مسقف . و الدار دار و إن زالت حوائطها و البيت ليس ببيت بعدما انهدام .و قال المناوي (952ه-1031ه): في التعاريف البيت موضع المبيت من الدار المخصوصة من المنزل المختص من البلد . و قال المطرزي (538ه-610ه) في كتابه “المغرب في ترتيب المعرب” : المنزل موضع النزول ، و هو عند الفقهاء دون الدار و فوق البيت ، و اقله ببيتان أو ثلاثة. و المسكن: “هو حيث يسكن الإنسان، و لا يشترط فيه أن يكون من يبيت في المكان مرتبطا بالآخرين، فكل بيت مسكن و لكن ليس كل مسكن بيت “.
أما في انثربولوجيا الرمز و المخيال ؛ ” الدار هي المدفن و هي بطن الأم ،و قبر الحياة بالتعبير الشعبي العام ،(…) مجالات فزيولجية و رمزية و مخيالية تحمل و تسوق لنوع من الدلالة على الاحتواء و الحميمية ” . 1
وبالنسبة لماريون سوكو Marion Segaud المسكن هو :” جسد و روح و هو عالم الإنسان الأول “.
“خليك فدارك”؛ حزام الأمان من فيروس كرونا الفتاك الذي لا مصد لجبروته إلا حضن الدار أو المسكن بدينامياته الاجتماعية و الثقافية ؛ حمولة الأمن و السلامة و الراحة و الاطمئنان،يصفها هنري دوران Henri Duran) ( (1921-2012) بقوله:”متاهة مطمئنة و محبوبة بالرغم ما تثيره من رهبة خفيفة”.
ترى كيف تلاءمت هذه المتغيرات في سباق مع الزمن لتواكب تغيير الفجاة الذي أنتجه كرونا ؟
الفرد جزء من الدار و الدار لا تكون دارا إلا بأفرادها ، و الدار كما يقول هنري لوفر Henri Levre هي :” علبة
وظيفتها الرئيسية هي إيواء و حماية ساكنيها و محتواها” 2
الدار كائن حي بمعناه الرمزي ،إنتاج و إعادة إنتاج في سيرورة تكاد تكون روتينية . الدار كغيرها من الظواهر الاجتماعية بتفاعلاتها و علاقاتها و بيئتها و ممارساتها اليومية إنتاج جماعي و جزء من الحياة الاجتماعية ،
أو ” كنموذج إبراز أو تعبير عن المجتمع “.
اهتز هذا المحيط الصغير بهدوئه و قيمه الاقتصادية و العاطفية و الرمزية الحديثة، برتابته و مشاكله.
فجأة، استرجع هوية ماضيه. اجتمع أفراد الأسرة في الدار ؛ فاسترجعت نضرتها و هيبتها ، لكنها ليست نضرة الفرح باللقاء ، بل نظرة الخوف من البلاء و المستقبل المجهول ، منهم المكلوم و منهم المهموم ، و بعضهم يردد “ماكين مشكل” التي تظل كما يقول الخطيبي ” الجملة السحرية التي تعالج كل شيء،أي لا تعالج شيئا”.3
الأمر واقعي و جدي ، وجد أفراد الأسرة أنفسهم محاصرين بشبح كرونا المميت ، و بقوانين الاحتياطات الواجبة لتجنبه و التي تجاوزت سياقات العرف و التحديث للحفاظ على سلامة الإنسان .
استطاع الحجر الصحي أن يحدث تغييرات في أنماط العيش اليومية للأسرة التي كانت ” قبلا عبارة عن مؤسسة بيولوجية فندقية تختص بالإنجاب و توفير المأكل و المرقد لا غير،كانت مجرد أرخبيل من الجزر
المتناثرة ، حيث كان كل فرد مسافر زاده خيال النت و جنون الاستهلاك و تشظيات الأنا “. 4
استعادت الأسرة رمزية قوتها و ألفة فضائها، لكن يبقى أمل التفاؤل مؤجلا إلى حين نهاية قصة كورونا
الغامضة.
عاد إلى الدار العامل و المياوم والطالب و المهاجر و رواد الأندية و المقاهي و الملاهي و غيرهم بصيغة المذكر
و المؤنث. عاد الأب و عادت الأم و الأبناء و كل أفراد الأسرة، ليبحث كل واحد منهم في ثنايا مسكنه عن مكانه، عن هويته، عن تاريخ الأوبئة عبر الجد و الجدة و مواقع التواصل الاجتماعي، عن تربة رتع فيها في صغره و حضن احتضنه في ألمه. فكانت المفاجأة، الكل يبحث رغم ظروف الأزمة عن “طمأنينة الحياة الأولى الخالية من الهموم “. بقول باشلار Bachelard ” الركن أو الزاوية الحميمية و الغرفة الخاصة و الهادئة “. 5
ترى هل تم التفكير في هذا القصد من قبل ؟
تفرقت السبل في بعض الحالات، مما جعل بعض أهل “الحضر” يعودون إلى القرية بحثا عن ” فضاء الحرية على عكس الفضاء الحضري “6. بحثا عن المسكن الواسع بحمولته الثقافية و الاقتصادية، بعد أن ولوا ظهورهم للقرية بحثا عن رفاهية العيش و “و رقة الحضارة”. فكانت هذه الهجرة صورة لقول ابن خلدون “الحضري لا يتشوف إلى أحوال المدينة إلا لضرورة تدعو إليها أو تقصير عن أحوال أهل المدينة “. 6
ترى ماذا يجسد هذا التغيير وهذه المتغيرات ؟ القرونة؟ أم هوية الانتماء ؟ أم ضرورة تعميق الثقة في امتيازات الاقتصاد الاجتماعي ؟
“خليك فدارك »؛ حفاظ على النفس أولا، عبر سلوك يومي متزن. رغم تحكم متغيرات جديدة صاحبت الحجر الصحي، فأفراد المجتمع كما أشار د. عبد الرحيم العطري: ” يقومون بممارسات يومية متكررة ، تتحكم إلى قانون ضمني ،ملزم ومحدد لأشكال الفعل الاجتماعي ، فتمة “حس مشترك” ينمط هذه التصرفات و يجعلها تعتمد على ذلك المستوى أو ذاك ، ذلك أن السلوك الاجتماعي للأفراد داخل الجماعة يفترض برأي كار فنجل توفر فهم مشترك يؤطر الانتماء و يحدد احتمالات الفعل و التفاعل ” . 7 من هذا المنظور، يمكن الاستنتاج عبر الملاحظة
و المعايشة أن المواطن المغربي كفرد لم يتبنى توجه ريمون بودون (1934-2013) للنزعة الفردية المنهجية في شقها الاقتصادي لمواجهة الجائحة بمتغيراتها بمعنى “تبني في كل وضعية سلوكا مطابقا لمصالحه “. بل اعتمد النزعة الفردية المنهجية في سياقها الاجتماعي مع تفادي عاقبة ” الأثر الطارئ ” الذي تفرزه السلوكات الجمعية نتاج مجموع السلوكات الفردية .
و مثال :”خروج المستخدمين من العمل على الساعة السادسة بشكل فرداني يؤدي إلى ازدحام الطرقات يسبب في اختناق المرور ” اكبر دليل إلى ما يمكن أن يقع في فضاء يجوب فيه كوفيد 19؟ ، لن يقود إلى اختناق فردي
و حسب ، بل إلى مأساة جماعية بسبب العدوى . “و هو الأثر الغير المتوقع لأفعال الأفراد” .
” خليك فدارك” ؛ مسؤولية اجتماعية طوقت مجال الحجر الصحي بالحذر و ” التعاون و الالتزام و الاحترام
و الحب و الديمقراطية في المعاملة و المشاركة الجادة التي هي صلة الرحم بين الأفراد في المجتمع الواحد ، ثم إن الشعور بالمسؤولية شعور نبيل و معه نتجاوز الشكليات لنصل إلى قدسية الواجب ” .8
اقتنع جميع الأفراد أن تقاسم الاهتمام المشترك وحده غير كاف لتدبير منظومة المسؤولية الاجتماعية و الواجب في مجال معركة كوفيد 19 ؛ بل ضرورة وجود فهم الوضع و الاهتمام بانفعالات الجماعة التلقائية و التفاعل معها و الشعور بالوحدة المصيرية.
فتآزر لصد مصيبة كوفيد19 ؛ المياوم بقلة حيلته و الميسور بمؤهلاته. تجرد الجميع من الحس النفعي ليواجه الأزمة بكل قدراته عبر آليات التطوع و الالتزام و المبادرة و الصبر .
خلخلة اجتماعية لم تكن في الحسبان ، نبهت للثغرات و لنقط قوة يلزمها مبادرات . لكن الواجب اجمع أن المهم الآن ؛ ليس الذات بأزمتها بل الأولوية للمصلحة العامة و سبل النجاة.
للأسف لا يخلو صرب طيور من “طائش” ؛ حالات خرق الطوارئ الصحية يدخل في نطاق ” تناقض الفعل الجمعي كما أشار مانكور ولسون Mancur Olson ” ينتحل فيها الفرد صفة المسافر السري و يترك الآخرين يتصرفون ” . 9
أن يكون الفرد مسؤولا ، يعني أن يتحمل مسؤولية أرائه و سلوكه الفردي و الاجتماعي ، و الواجب و عي و أخلاق و مسؤولية و التزام لا يقبل التأجيل .
“خليك فدارك” في انتظار انكشاف هذه الغمة. و لنتضامن أكثر و نتعاون على تدبير هذا الزمن السريع البطيء
” بحاءات ثلاث مفتوحة على الحب و الحلم و الحكمة “.10
المراجع :.
- – سوالمية نورية – الساكن و الفضاء السكني علاقة حميمية – مقانرة انثربلوجية – مجلة آفاق علمية . 2018 . ص 100
- – نفس المرجع ص 105
- – نور الدين الزاهي – المدخل لعلم الاجتماع المغربي . دفاتر وجهة نظر . 2011 . ص 85 .
- – عبد الرحيم العطري – صفعة كرونا من “المزيد” إلى ال “عن بعد”.موقع TRT عربي .
- – سوالمية نورية – الساكن و الفضاء السكني علاقة حميمية – مقارنة انثربلوجية – مجلة آفاق علمية 2018 ص 102 .
- عبد الرحمن ابن خلدون – مقدمة ابن خلدون –دار الفكر- ص 122
- – عبد الرحيم العطري – سوسيولوجيا الحياة اليومية ،الرمزي أفقا للتفكير . دفاتر العلوم الإنسانية الرباط .مطبعة بلال .2018. ص 25.
- – نبيل احمد الأمير – المسؤولية الاجتماعية للأفراد اتجاه المجتمع – صحيفة المثقف – العدد : 4976- 2020.
- – محاضرات ماستر سوسيولوجيا المجالات القروية و التنمية . سايس –فاس .النظريات السوسيولوجية المعاصرة .2019-2020 .
- – عبد الرحيم العطري . صفعة كرونا من “المزيد” إلى ال “عن بعد” .موقعTRT عربي .2020