الديكتاتورية، ليس للتعريف وإنما للتذكير فقط، هي حكم مُطْلَقٌ تنحصر السلطة في يد شخص واحد، تغيب فيه المؤسسات، و يعتلي الأشخاص منصة الحكم. و هي سيطرة مركزية مطلقة على كل مظاهر الحياة. و “الديكتاتور” عند الرومان في الأصل، منصب سياسي و لقب كان يعد محترما، يوليه مجلس الشيوخ، في حالة الطوارىء، لقاضي حتى يدبر شؤون الجمهورية الرومانية لمدة لا تتجاوز ستة أشهر. و هو إجراء ثم إِبْطَالُهُ مباشرة بعد إغتيال الإمبراطور ” يوليوس قيصر”.
في العصر الحديث، ظهرت أنظمة سياسية وصفت بالديكتاتورية مثل الأنظمة الشيوعية و النازية و الفاشية، سيطرت على وسائل الإعلام وجعلتها بُوقًا للدعاية و البروباغاندا لتصريف و ترويج أيديولوجياتها من خلال توجيه و ترهيب الجماهير.
اليوم وفي زمن “عولمة الوباء”, نعيش “ديكتاتورية” من نوع آخر، ربما بفعل الإنسان لكن بتجليات الوباء: و كأن العالم أصبح تحت كَعْبِ ديكتاتور واحد. وهو ما يحيل على الأذهان مؤلف للكاتب الأمريكي Jack London “الكعب الحديدي” (The Iron Heel), في وصفٍ لمعانات الطبقة الشغيلة القابعة تحت رحمة الأوليغارشية الرأسمالية.
و قياساً على مؤلف الكاتب الأمريكي، فالوباء أبان عن علو كعبه في ترهيب و تهديد و تذليل العالم. وبفعل هذا الفزع، تحكم في الإعلام، وفرض لنفسه دعاية، و روج لها في أنحاء المعمور، و أحكم قبضته على الجماهير، و أصبح ذا سلطة و مهابة. فرض الحظر، وأَمْلَى قانونه. أخضع البشر، و إستحقر الإنسان و طَوَعَ غروره.
إنه ديكتاتور بلا رحمة و بلا هوادة. لا ترصده العين، حتى تكتشف فتكه و بطشه و قساوته. فأصبحت الجماهير تهابه و تخشى على أعناقها من سيفه. و كأنه الحجاج يهدد و يتوعد: ” إني لأرى رؤوسا قد (تجبرت و غادرت دورها) و إني و الله لصاحبها”. و كما كان الناس يرددون آنذاك “وَيحَكَ من سيف الحجاج” أصبحوا اليوم يحذرون “وَيحَكَ من فتك الوباء”.
ما فرضته ديكتاتورية كائن مجهري من طاعة و إمتثال للأمر و النهي و القانون، عجزت عن تحقيقه الأمم المتحدة و مجلس الأمن و منظمة السلام الأخضر (Greenpeace) و الدول العظمى مجتمعة. لأول مرة يُسْمَحُ للكرة الأرضية بقسط من الراحة، و بالتنفس تحت وطأت ساكنة اوشكت على 8 مليار نسمة. أول مرة نعاين مؤشرات غير مسبوقة في تراجع الإنبعاثات الغازية الملوثة و المرتبطة بما يعرف ب”الإحتباس الحراري”. أول مرة تُظْهِرُ الأقمار الإصطناعية تدني نِسَبُ الثلوت في سماء البلدان كما لم يحدث منذ 70 سنة حسب الخبراء.
صحيح إستشعرنا اليوم مرامي حالة الطوارئ الصحية التي يشهدها العالم. لكن هل إستوعبنا يوما حالة الطوارئ المناخية؟ هل أصغينا إلى تنبيه و تحذير الخبراء حيث حياة الملايين من الاشخاص مهددة، والأنظمة البيئية مُوشِكَةٌ على الإنهيار؟ وهل إستحضرنا علاقة الطارئين: الطارئ المناخي و الصحي؟ الجواب جاء قطعيا من أحد خبراء منظمة السلام الأخضر، و هو يؤكد أن وباء كورونا يفسره إختلال التوازن الصحي بين البشر و الطبيعة” مضيفا ” إننا في النهاية نعيش حالةَ طوارئ مناخية”.
العالم في حرب مع الوباء، و ما يشغله اليوم، على ما يبدو، هي معركة الكمامات، و المعدات و التوصيات. لكن بالموازات، هل أفسحنا المجال بما يكفي لنقاش الأسباب و المسببات حتى نغير السلوك، و حتى لا نتمادى في “صنع” أوبئة ربما أَشَدُ فتكا؟ وتفادي أسوأ سيناريوهات الطوارئ المناخية و التي تُحِيلُنَا مباشرة على الطارئ الصحي الذي يُعَدُ الإنسان هدفه الأخير، حتى لا أقول ضحيته الأولى.
اليوم، ولو أننا قابعون في منازلنا، نشعر بأننا نتنفس أفضل: إستراحة قصيرة غيرت وجه العالم، و مَكَنَتِ الطبيعة من إستعادت سكونها و هدوئها.
سأل صديق صديقا آخر يستفسره عن ظهور خنازير برية بجوار المدن، أجابه: ربما عادت إلى مكانها الطبيعي بعد أن إستنفرتها مظاهر التمدن. و اليوم أحاشها هدوء المدينة. و ها أنت منزعج، حتى في حالة الحظر الصحي، فقط، لرؤيتها في صور و تسجيلات.
جاء في رواية Frankenstein للكاتبة البريطانية Mary Shelly (إبنة الكاتب و المفكر William Godwin، و الكاتبة Mary Wollstonecraft) أروع رسالة حول إِلحَاحِ الإنسان على الإبتكار و الصنع، ليصنع وحوشا يكون هو أول ضحاياها. إنها قاعدة “خروج المخلوق عن طاعة الخالق”. و الرواية تسوق دلالة رمزية متفردة عن بواعث الشر و الضرر الذي يتجلى أصله في نَهِمِ و طمع البشر, ينتهي بنهايته.
و حتى نعود إلى ديكتاتورية الوباء، فقد علق أحد المفكرين قائلا:” الديكتاتور فرد بين البشر، و ليس بشرا في فرد”. فهل يَصِحُ هذا القول على ديكتاتورية الوباء؟ لكم التعليق.
اعلان
اعلان
اعلان