إن تاريخ البشرية حافل بمعارك تخليص الإنسان من الوضاعة والفكر التافه ليسمو بذلك إلى الحقيقة والعيش في ظل القيم الكونية التي تجعل من الإنسان إنسانا. وتعتبر الفلسفة رائدة في تبيان حقيقة الاشياء لأن الانسان مرادف للحياة وأن موته رهين باندثار الأخلاق والكرامة من المجتمع.
لا يخفى على أحد التأثير السلبي الذي خلفه وباء كرونا على العالم وذلك على عدة مستويات كالاقتصاد والسياسة والعلاقات الإنسانية ناهيك عن كشف عورة منظومة القيم الفاسدة التي سادت الشعوب والأمم مع الرأسمالية المفرطة والليبرالية المتوحشة، حتى ظن الإنسان أنه بلغ قمة التطور العلمي معلنا سيطرته التامة على الطبيعة بصفة عامة.
يقال أن ” للسلاح حدين“، والحد الإيجابي في تفشي وباء كوفيد 19 هو أنه بين النهج الخاطئ والمتسارع نحو إقبار البشرية في الرداءة والانحطاط. سياسات تمجد السفاهة والرذيلة والفن السوقي على حساب قطاعات حيوية وفعالة كالصحة والتعليم والبحث العلمي إذ نضمن بهذه الأخيرة استمرارية وبقاء النوع البشري.
لقد كان للفلسفة السبق في تسطير معنى شامل لمفهوم القيم، حيث خصصت لذلك علما قائم الذات ” الأكسيولوجيا” L’axiologie . مع الكرونا، سادت فلسفة ذاتية قائمة على الأنانية L’égocentrisme، نافية للقيم الإنسانية المتمثلة في التعاون والتعاضد في زمن الكوارث. شعوب ودول تنكرت لمثيلاتها بدعوى المصلحة العليا للبلاد فأغلقت الحدود وبذلك تركت الكيانات الضعيفة اقتصاديا ولوجيستيكيا تواجه قدرها المحتوم.
بعد كرونا، سيكون من الصعب إقناع المجتمعات بضرورة تبني قيم الحب والتعاون والتضامن إذ أن الوباء عرى واقعا مقيتا طالما عمل الإنسان البراغماتي المادي على إخفاءه والتستر عليه. سرعان ما تنكرت الدول العظمى والتي طالما حاضرت أمام شعوب العالم في مواضيع التآزر والتكافل إبان الشدائد. لقد أعطت بعض الشعوب مثالا قويا في الانضباط والالتزام الصارم لتجاوز مثل هذا النوع من الأزمات حيث تأتي الصين في مقدمة هذه النماذج، وهي الدولة التي غزت العالم بصناعاتها وتكنولوجياتها المتطورة. أضف إلى ذلك تحمل الدولة لمسؤولياتها في توفير شروط أساسية لتجاوز الأزمة كتوفير الغداء والأمن المعيشي، بخلاف دول لم تكلف نفسها سوى إصدار بلاغات تأمر فيها مواطنيها بالمكوث بالمنازل وانتظار الفرج.
يمكننا القول بأن الإنسانية اكتشفت الادعاءات والأوهام حول تطورها وسبقها التكنولوجي حتى صارت الآلة ” آلهة” تحكم البشرية واتضح بالملموس زيف شعارات التسامح والتعاون التي تغنت بها أكبر الديمقراطيات وذلك بسرقة ومصادرة حمولات سفن وبواخر معلنة بذلك الرجوع إلى زمن غابر، زمن القرصنة والبقاء للأقوى (منطق الغاب).
ماذا بعد؟
إذا كانت عناصر الضعف التي طفت على سطح الأزمة تشكل تشخيصا لواقع هش وضعيف، فهي بذلك مرتكزات النهضة، ما إن توفرت الإرادة الحقيقية، والتي يجب أن تعمل عليها كل دولة على حدة بغية سد الحاجيات وعملا على الاكتفاء الذاتي، أشياء لن تقوم لها قائمة من دون دعم البحث العلمي وتشجيع الأدمغة على الاستقرار عوض تسهيل هجرتها نحو الخارج ولاهتمام بالعنصر البشري وإيلائه الأهمية التي يستحقها أملا في غد مزهر وجميل.
مقال رائع للأستاذ والصديق البغدادي
وأضيف أننا اكتشفنا عيوب النظام الرأسمالي الجشع