سيكون مدار حديثنا في هذه الورقة حول راهنية مفهوم المجال العمومي من منظور سوسيولوجي عند هابرماس، وسنسعى من خلالها إلى رصد التطور الذي عرفه المجال العمومي في تصور هابرماس، فمعلوم أن مفهوم المجال العمومي لا يحيل فقط على المجال أو المكان أو الفضاء الخاص بالمناقشة السياسية أو تقارع الآراء الخاصة، بل هو كذلك هو مجال لتقارع الآراء الخاصة التي تسعى إلى أن تصبح عامة، ويعني أيضا الممارسة الديمقراطية وشكل من أشكال التواصل وتمرير مجموعة من وجهات النظر. فالفضاء العمومي ليس صيغة مقابلة للفضاءات العامة لأن الفضاء العام مكان للنقاش السياسي والحوار والممارسة الديمقراطية وتعميم وجهة النظر، فالفضاءات العمومية هي تلك التي يمكننا أن نسميها بالأماكن العامة التي يمكن للجميع أن يلجها بكل حرية. من خلال هذا التقديم نجد أن مفهوم الفضاء العمومي يطرح أسئلة أساسية يمكن تلخيصها في الإشكالات التالية:كيف تبنى العلاقات بين السلطة والمجتمع؟ وما الجذور المعرفية السوسيولوجية للفضاء العمومي؟ وما الصيغة التي ظهر عليه الفضاء العمومي عند هابرماس؟.
سنبدأ هذه المقالة قبل الغوص في مفهوم المجال العمومي عند هابرماس بالبحث عن بدايات المجال العمومي.
يمكننا أن نعثر على أصول مفهوم الفضاء العمومي في نسق الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وعلى وجه التحديد في نصه المعنون ب”ما الأنوار؟” وترجع هذه الدعوة إلى التحديد الذي أقامه الرجل بين المجال الخاص والمجال العام، و هابرماس نفسه يعتبر أن من نحت مفهوم العمومية بصيغته الحديثة هو الفيلسوف كانط، ولفهم هذه القضية لابد لنا أن نشير الى أهم نقاط النص المذكور سلفا، فالتنوير هنا هو خروج الإنسان من حالة القصور أو الوصاية وذلك باعتماد العقل، هذا التنوير يتطلب حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين.
وفي هذا السياق يعتبر مفهوم “المجال العمومي” من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان “التحول البنيوي للمجال العام” ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة :الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقبل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة…، هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي والصحافة والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.
بالحديث عن المجال العمومي في النسق الخاص بالمفكر هابرماس، فيعتبر كتابه المعنون ب”الفضاء العمومي :اركيولوجيا الدعاية باعتبارها مكونا بنيويا للمجتمع البورجوازي” مؤلفا مهما في الفكر السياسي والسوسيو لوجي، وذلك لكونه ذا خلفية سوسيولوجية وتاريخية، فمن خلاله يحلل هابرماس عمل الأفراد على تشكيل الفضاء العمومي باستعمال عقولهم، والكيف الذي تحول من خلاله الفضاء العمومي الخاضع لرقابة الدولة إلى فضاء يسود فيه النقد الموجه ضد السلطة.
يقيم هابرماس تمييزا بين مفهوم العمومية ومفهوم المجال العمومي . فالعمومية تتجلی في كون الدولة جملة من المؤسسات العمومية التي مهمتها خدمة العموم ، ويستعمل في حقل السياسة للإشارة إلى المؤسسات العمومية التي تخضع لسلطة الدولة التي تقوم بتسييرها من خلال جملة من الضوابط القانونية والتشريعات السياسية التي تتوافق مع سلطتها ، هذه الدوائر العمومية من خلالها يتفاعل الجمهور في إطار تواصلي. وتتعلق بتربة المجال الذي يتواجد فيه الكائن من أجل العيش المشترك ،فوجود الفرد في فضاء عمومي هو وجوده داخل مجال مؤسس على مبادئ ومحكوم بقيم حارسة للإنسانية،ويتمتع الفرد بالحرية داخل هذا الفضاء المنسجمة مع العقل ،من أجل تنظيم المجال تنظيما يجعله متأرجحا بين المجتمع والدولة. فالتفكير في الفضاء العمومي يعد شرطا إنسانيا في أبعاده الاجتماعية والسياسية كونه تفكيرا في مصلحة الفرد وكيفية اندماجه في المجتمع ومشاركته كمواطن في تعزيز الديمقراطية والسلطة السياسية. ويعتبر الفضاء العمومي البورجوازي خاصا بمرحلة ما ،ولا علاقة له بالأغورا اليونانية ، وبالنسبة لهابرماس ، فقد تم الاحتفاظ بالفضاء العمومي منذ اليونان بشكل أنموذج إيديولوجي وليس باعتباره تشكيلا اجتماعيا. وقد أوضح أن الفضاء العمومي البورجوازي ظهر في الوقت الذي كان فيه النظام الفيودالي يعتمد على الحق الإلهي الخاضع لضغط البورجوازية الداعية إلى عقد اجتماعي. من هنا جاءت أهمية الفضاء العمومي بين المجتمع المدني والدولة ، أي بين المصالح الخاصة والقواعد المشتركة . إذن نحن أمام انفتاح الإمكانيات مناقشة القواعد في الوقت نفسه مع ظهور المدينة باعتبارها مركز الحياة الاجتماعية . وهذا ما تحقق بفضل تطور الأماكن التي تسمح بتداول الأخبار بين الأفراد كالمقاهي والصالونات الأدبية والنوادي .. إذ أخذت هذه الأماكن انطلاقتها الفعلية خلال القرن 18 ، وقد أصبحت مسرحا لتطور الفضاء العمومي الأدبي الذي أسس القاعدة الأساس لظهور الفضاء العمومي الحقيقي الحديث .
إن معالجة هابرماس لمفهوم الفضاء العمومي لا تنفصل عن مقاربته لمفهوم الرأي العام الذي يمثل مقولة تاريخية ، إذ يؤكد على أن المفهومين يمكن مقاربتهما من زوايا مختلفة للعلوم الأخرى كعلم الاجتماع والتاريخ والسياسة، فستنحو مقاربة هابرماس منحی سوسيولوجيا و تاريخيا، وذلك لأن مفهوم الفضاء العمومي يمثل مقولة تاريخية حديثة، وبالتالي لا يمكن عزل المفهوم عن حقل تكونه التاريخي لأن موضوع الفضاء العمومي هو الجمهور باعتباره حاملا لرأي عام ذي وظيفة نقدية. فالدائرة النقدية العمومية تقيد الجمهور أو جميع المواطنين الحاملين لرأي عام نقدي وبهذا يكشف التصور الإغريقي عن طبيعة تكون الدائرة العمومية التي تتكون من الحوارات والنقاشات وتبادل الآراء والأفكار بين المواطنين في إطار الديمقوارطية المباشرة، وتتحول الآراء والأفكار إلى لغة يومية متبادلة يجد فيها المواطن هويته وتمكنه من تحقيق التواصل بحيث تتيح المدينة للمواطنين فرصة النقاش والمداولة العامة، في إطار التساوي من أجل التمكن من الحوار والاعتراف. ثم إن نموذج الدائرة العمومية في نظر هابرماس لم يعرف ذروته إلا مع الدولة الحديثة، لأن العمومية في الفترة الهليستينية وعصر النهضة لم تكن سوى نموذج معياري، وأن ولادة النموذج الواقعي تزامن مع ولادة الدولة الحديثة والمجال الذي يقابلها والمتمثل في المجتمع المدني، فلم يتحقق التواصل بالمعنى السياسي إلا في العصر الحديث والانقسام الفعلي بين الدائرة العامة والدائرة الخاصة، بحيث تشكل المجتمع الرأسمالي الجديد وتشكلت الطبقة البرجوازية على هامش النظام الإقطاعي، وأن ما يميز الثورة البرجوازية هو ظهور فضاء سياسي يهدف إلى التحرر من النظم السياسية القديمة ويؤسس لنموذج جديد ولقضاء يؤمن الامتيازات السياسية الطبقة الجديدة المسيطرة اقتصاديا والتي ستحكم فيما بعد في الدائرة العمومية سياسيا وإيديولوجيا .
تشكل الصحافة بدون شك الموضوع الرئيس الذي يبين تحديث الفضاء العمومي ، لصناعة الثقافة التي انتشرت منذ القرن 17 ، مثل بعض الروايات، وخصوصا الجرائد ، ميزت المنعطف نحو إمكانية تقاسم الأفكار داخل المجتمع بشكل خاص، وقد اعتبر هابرماس صحافة الرأي بمثابة إخبار وكذلك مقالات تعليمية ونقدية وتلخيصات .. مضافة إلى محتويات مجموعة مهمة بما فيه الكفاية لجرائد الماضي، كما شكل التحليل النقدي والمقال العميق المعيار في الصحافة اليومية ، وهذا من دون أن تكون التجارة مرتبطة به حتى منتصف القرن 19. وبالنسبة إلى هابرماس ، فالمرور إلى اقتصاد جماهيري أفقد القضاء العمومي طابعه السياسي . لقد أصبحت الدعاية التي شكلت في الماضي نظام نشر الأفكار، مع مرور الوقت ، بغرض معرفة تحررية، إعلانا ذا طابع تجاري ، وعملت الدعاية مسبقا على فك لغز الهيمنة السياسية ، وذلك بفضل الاستعمال العمومي للعقل المتسائل عن سياسية الأسرار الممارسة من طرف النزعة الإطلاقية التي لم تصبح صناعة للاندماج الاجتماعي إلا بغرض بيع المنتوجات التجارية . أما بالنسبة لهابرماس ، فقد تم الانتقال من صحافة الرأي إلى صحافة تجارية بفضل التقدم التقني الحاصل في مجال نقل المعلومات ، كما أصبح محررو الجرائد بعد عام 1870 اقل اهتماما بالمصلحة العامة والرسالة التورية مقابل دفاعهم عن المصالح الخاصة ذات الامتيازات ، وهنا يقوم شکل نقد راديكالي لانحراف الفضاء العمومي السياسي الذي تلاشي أمام ضغط الرأسمالية ، كما أشرف المفكر أدورنو على أطروحة هابرماس ، سليل المدرسة النقدية الألمانية، ويعد من أبرز ممثليها . ويصف هابرماس وسائل الإعلام الجديدة ( راديو ، تلفزة ) بشجاعة متماثلة ، حيث قام بنقدهما بالاعتماد على نموذج الفضاء العمومي الأدبي السابق وصفه . فهذا الأخير نشر القراءة في الوسط الأسري. في حين أنه حتى السينما والإصغاء الجماعي للراديو ومشاهدة التلفزة لم تسهم في إدامة العلاقات الاجتماعية المميزة للفضاء الخاص المترابط بالفضاء العمومي، وذلك لأن اهتمامات الشعب المستهلك للثقافة الذي يؤثث هواياته كانت تجري في الداخل على عكس ما هو اجتماعي، من دون أن تكون هذه الاهتمامات محط نقاش. وبالنسبة لهابرماس ، الوسائل الإعلام الجديدة عملت على تقليص المسافة الواجبة لأن يقف منها القارئ بالنسبة لأي نص مطبوع، وهذه المسافة يفرضها منطق الاستيعاب الذي يحمل طابعا خاصا، ويعتبره الشرط الضروري لكل فضاء عمومي، حيث يتم تبادل النقاش الدائر حول ما تمت قراءته .
وفي الأخير نجد هابرماس قد أدرك أنه قاس إلى حد ما لا قدرة تأمل الذات الحديثة حول الإعلام الجديد، أو يمكنه أن يكون طوباويا حول الفضيلة السياسية للقراءة ، لكنه يدفعنا إلى التفكير حول الإعلام في تكوين المواطن. وهذه من الإسهامات المهمة لهابرماس ، لأن تعريفه الفضاء العمومي البورجوازي المتحول من مثالية تحررية إلى حقيقة تجارية، يذكرنا بأن بناء القضاء السياسي ينتج في الوقت الذي تتم إعادة التشكيل بين العالم والفرد، وكذا في التفاعل بين الأفراد الذين يهيؤون الظروف لفضاء عمومي، وليس في التقنيات الإعلامية موضع التنفيذ. بعبارة أخرى ، إن الفضاء العمومي في تصور هابرماس هو إمكانية اجتماعية لا يمكن أن تتحقق تاريخيا إلا عبر مشاركة تعددية للأفراد، فالتقنيات ما هي إلا ادوات حاملة الخصوصيتها التي عليها أن يستعملها الإنسان بغرض التأثير في العالم ، فإذا خرجناء إذن ، من هذه الجدلية بين الإنسان والتقنية، فلن يساعد الفضاء العمومي الفرد منا في التفكير في عالم مشترك ما دام أصبح من دون بصيرة .
لقد أصبح المجال العمومي إذن يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريگا ومكملا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع ، وهو أيضا ليس موزعا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن تقلها العددي فقط، لكن كذلك نقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها . والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سیاق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهوما متعاليا معلقا في الفراغ. أخيرا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية واجتماعية ومواطنة وانتهاء بالتعريف ، فلا ديمقراطية بلا تعددية.
- حسن سمر: أستاذ باحث في الفلسفة السياسية.