اعلان
اعلان
ثقافة وفن

حسين بلحاج يكتب: هواجس الضياع، سردية الضياع والجنون..للكاتب المغربي الحسين أيت بها

اعلان

 بقلم: حسين بلحاج

 

اعلان

     يعتبر السرد المغربي سرداً حيّاً ، تحضر فيه عدة مقومات تضمن له التميّز،  فهو ينطلق من الواقع ويؤولُ إليهِ ،ويستحضر الذاكرة الجماعية، والثرات الحي،  ويُعوّل على جِدّةِ المواضيع وطرافة الأفكار، ؛ فتارةً ، نقرأ لكاتبٍ يستحضرُ أحد أبرز أقطاب التصوف،  وتارة أخرى،  نقرأ حول مسيرة فكرية قلبت كلّ شيء رأساً عن عقبٍ ، أو من يتحدث عن طباع المغاربة  ويفتح مجال السؤال حول ثقافتنا وهويتنا،  وأخيراً ، هناك من يتحدث عن الجنون،  واتباع خيوط الحقيقة لمعرفة أسباب الجنون ؛ من خلال رواية لا تتعدى المئة صفحة،  موسومة بعنوان: “هواجس الضياع “.

الحسين أيت باها كاتب مغربي ينحدر من جنوب المغرب ، وتحديداً زاكورة؛ واحةالنخيل وعاصمة الثقافة،  وهو ابن بيئته،  يكتب عنها،  في أعماله،  ويناضل من أجلها بقلمه،  يقتات إبداعه من واقع محيطه،  ويستلهم حكاياته من وقائع القرية وماضيها وحاضرها،  سحر المكان يحرك قلمه،  والوقائع المزرية تؤُزّه لإيصال صوت الكل بقلم السرد .

اعلان

ورواية “هواجس الضياع” تثبت ذلك،  فهي تسرد وقائعاً مؤلمة،  ولا شكَّ أن الراوي عايشها أو استلهمها من الأحداث التي تتسلسل في هذه المنطقة.

 

القصة الإطار:  

تتحدث الرواية عن شاب عاش معاناة نفسية مريرة قادته نحو الجنون،  يتتبع الراوي  صديق البطل،  خيوط الحقيقة الشائكة ليتوصل للسبب الفعلي لجنون صديقه.  يُشفى الشاب من الجنون،  ليدخل في دوامة الهواجس والمعاناة إثر الألم الذي أحدثته أطلال الماضي،  لتنتهي بموته لأسباب مجهولة،  مخلفاً ذكرى أليمة لصديقهِ .

الزمان والمكان : 

لم نشهد حضوراً بارزاً للزمان والمكان،  فلم يذكر الراوي سوى بعض الأمكنة الثانوية التي توطّن الحدث،  كالمستشفى  القرية ، دار عبد الرحمان،  العين… ثم  الزمان الذي لم يُحدّد في سنة أو حقبةٍ معينة،  بل ترك الفضاء مفتوحاً ، اللهم إلا من بعض الأزمنة  الصباح، الليل …

لكن يحضر زمن نفسي،  يتجلى في الذاكرة الاسترجاعية لعبد العالي(البطل) ، وهذه النقطة ، أي غياب الزمان والمكان،  لا تُحسبُ على الكاتب بالنقص،  بل؛ وفي رأيي،  تُحسبُ لهُ ، فغياب الزمان والمكان له دلالات؛ منها أنّ قصة عبد العالي ليست محدودة في جنوب المغرب وفي القرن 21 بل ؛ هي قابلة للحدوث مع أي شخص،  في أي مكان،  وفي أيّ زمان ، شرط أن تتوفر فيه شروط الجنون،  على حدّ تعبير عبد العالي في الفصل الخامس :

” أنا المجنون المعربد،  القاسي والمتكبر والمهاب،  لا لشيء سوى أنني أصرُحُ ولا أنافق،  ولا أغلّف ظاهرة الأشياء ” (ص60).

فطبع عبد العالي المغاير،  يستفزّ أهل القرية،  لأنه يصارحهم بعيوبهم دون نفاق،  ولا يتصنع ليرضي أحداً ، بل يترك الأشياء كما هيَ ، كما أنه تخلى عن الديبلوماسية وحسن السلوك،  ليصدع بالحقيقة التي لا يحب الناس سماعها؛ ولذلك هو في نظر الناس مجنون.  أو حسب الراوي أن المعرفة الزائدة مرتبطة بالجنون :

” العبقرية الزائدة والطائشة تجعلنا نتساءل عن علاقتها بالجنون.  هذا الخيط الرفيع بينهما هو الذي مسّ الهداوي(عبد العالي) وأفقده عقله ” (ص26) .

نعود للفكرة الأساس،  دور غياب الفضاء الزمكاني في شمولية الحدث ، ونستحضر هواجس وشكوك الراوي عندما اعتبر عبد العالي غير موجود،  وأنه يقبع داخل كل ضمير :

” هل يمكن أن يكون الهداوي شخصية خيالية؟ اخترعها خيالي الواسع وقادني الفصول للتعرف عليها،  ؟ أم أن الهداوي موجود في الحقيقة؟ وأنه موجود في كل ضمير يحيا فينا ” (ص 44) .

فداخل كل شخص يقبع “عبد العالي ” المجنون والمتمرد،  والعنيد،  الذي مرّ بصدمات جعلت منه شخصاً آخر،  داخل كل ضميرٍ توجد صراحة تحارب زيف العلاقات،  وضمير يقتنع بالحقيقة التي لا يحب الناس سماعها

تحليل المضمون :

ينقلنا الراوي في بداية السرد من غموضٍ كثيفٍ حول طبيعة العلاقات ، وهوية الشخصيات،  وفضاء الزمكان،  إلى غموض أقل،  بمعرفة الحدث الحاصل (شفاء عبد العالي من الجنون ) ثم ينجلي ذلك الغموض تدريجياً مع تعاقب ثنائية السرد والوصف (ص. 14 .15)

كما أن الراوي يعلن مشاركته في أحداث الرواية باستخدامه ضمير المتكلم الذي يحيل على العلاقة بين الراوي وباقي عناصر السرد من شخصيات وأمكنة ووقائع.  لينتهي الفصل بشفاء عبد العالي من الجنون في جوّ من فرح صديقه وأخيه،  لكن قصة عبد العالي لاتنتهي،فالراوي يفتح مجال الفضول لدى القارئ . (قصة جنون عبد العالي) .

في الفصل الثاني ، يستحضر الراوي ماضي البطل وحاضره؛ ماضيه المتمثل في الاشتغال بالفلسفة والتأثر بأفكار نيتشه الفيلسوف الألماني   المعروف بالعدمية ، وحاضره الموسوم ببداية فقدانه لعقله،  إذ طُبِعت حياة عبد العالي بالضياع والجنون.

من خلال الحوارات المقتضبة بين الراوي والبطل،  يفتح الراوي مجالاً للشك والسؤال ، حول الجنون مثلا  ، أو بعض أفكار نيتشه ، وهي تساؤلات لا تتم الإجابة عنها،  بل يراهن الكاتب من خلالها على درجة وعي المتلقي،  وهذه النقطة تُحسب للكاتب.
مثلا :
في الجامعة ، كان عبد العالي يقرأ بينهم لنيتشه،  هذا علاوة على تخصصه في الفلسفة،  هذا النهم وهذا التأثّر ولّد لديه عبقرية طائشة ومعرفة زائدة،  حسب الراوي،  فإن المعرفة الزائدة ترتبط بالجنون.

المثال الثاني : 

يفترض الراوي  ثلاث فرضيات لجنون عبد العالي،  ومن بين الفرضيات الثلاث نجد الصراع الذي عاشه عبد العالي مع أخيه عبد الرحمان حول الأرض التي تركها والده .

فمن خلال المثالين  نصبح أمام معادلة كالتالي:
المعرفة الزائدة + الصراعات والاضطرابات= الجنون
يعود الراوي في الفصل الثالث ليصف القرية وصفاً دقيقاً يشمل واقع القرية الحالي( جفاف الوادي ) والذكريات المختلفة فيها (غرق أخ عبد الهادي ) .

جفاف الوادي يحمل إشارات حول مصير أهل القرية (الهجرة مثلا) ويتعلق بمرور الزمن ، فهذا الوادي الذي أغرق بالأمس أخ عبد العالي ، هو الآن يشرف على الجفاف .

يصف الراوي علاقة البطل بأمه عائشة : رمز الحنان . وتعرضه للتهميش من  طرف أخيه لأنه ابن زوجة الأب . ففي كل مشهد سردي نتوقف على جوانب من مأساة عبد العالي (موت الأب ، موت  الأم،  غرق الأخ،  التهميش،  النعت بالجنون …)
هذه المأساة عامل من عوامل الجنون .

إذا تتبعنا السرد،  فسنجد أن الراوي يتتبع   خيوط الحقيقة لمعرفة سبب جنون عبد العالي،  وكل مرحلة في هذه الرحلة تكشف له عن سرّ جديدٍ بين الفصلين الثالث والرابع خطّ فاصل ، إذ أنتقل السرد من لسان عبد المجيد عن صديقه إلى لسان عبد العالي عن نفسه ، لتتبدّد الغيوم عن حقائق جديدة  يرويها عبد العالي بنفسه وهي تتمثل في النقط التالية :

جنون عبد العالي ليس سارياً إلا في حكمِ الناسِ ، أمّا هو فلا يحسب نفسه إلا صريحاً يتخلّص من زيف النفاق ليواجه الناس بعيوبهم دون تودد أو تصنع.  ويضيف جوانب من شخصيتهِ : الذكرى ، الألم والحزن.

يُعزي سبب بداية جنونه إلى أخيه عبد  الرحمان   الذي أخذ الأرض ، ورفض الحوار معه،  والنقطة التي أفاضت الكأس،  هي تكالب كل أهل القريةمع أخيه ضدّهُ ، تمخض عن ذلك حقد دفين،  أوقد في صدره فتيل الانتقام.  لكن ما قاده نحو الجنون ، هو العقاقير التي كانت تُقدّم له من طرف مشعوذي القرية،  والتي أصابته بالصرع والأعصاب .

يعود بنا  عبد العالي إلى ذكريات الجامعة ليسرد قصة عشق بطلتها طالبة معه،  يشتركان في عشق الفلسفة،  ليكتشف فيما بعد خيانتها،  فيستنتج أنه لم يعشق المرأة،  بل عشق الفلسفة،  وعشق الفلسفة هو ما جرّه نحو التقرب منها،  وكنتيجة لذلك ، نفى فكرة الحب من ذهنه بصفة نهائية .

يكشف عبد العالي عن قسوة عبد الرحمان وتخليه عنه،  ووقوف كل أهل القرية في صف أخيه،  وأنّ الفلسفة هي سبب معاناته،  فهي خلقت له عداوات مع الناس،  خصوصاً وأنه يتبنى أفكاراً ترفض الاستبداد والاستعباد،  وهذا غير مقبول في قرية سكانها سذّجٌ .

تنتهي الرواية بالعودة لعبد المجيد ، الذي يبثّ المتلقي حزنه الشديد ومرارة الذكرى بموت عبد العالي الهداوي ، لأسبابٍ مجهولة، خلفت لدى الراوي شكوكاً حول سبب الموت،  ليعود لطرح الأسئلة المفتوحة ، التي تفتح مجال الشك لدى القارئ : هل مات منتحراً أو مقتولا ؟ إذا كان منتحراً فلماذا ؟ وإذا كان مقتولا فمن  .

يحتفي الراوي بهذه الذات المعذّبة،  والمتمردة ، فيصفها تارة بالذات المتصوفة،  وتارة بالولي الصالح .  ذات تترجرج في اللاوعي ، وتسبحُ في هواجس الضياعِ والتيه ، والهذيان باطلال الماضي .

التيمات السردية : 

تيمة الجنون:

 تحضر تيمة الجنون بقوة في تفاصيل هذه الرواية،  فهو الموضوع الأساس للرواية،  فالكاتب تطرق للجنون من منظورات مختلفة ،فتارة يكون الجنون مرتبطٌ بالمعرفة الزائدة،  وتارة بوقائع تتراكم  على الذات لتتمخض عن هواجس تقترب من الجنون . وزوايا متباعدة،  فهواجس المجنون يعتبرها فقيه القبيلة  زندقة وكفراً :

” تعجبت حقّاً من هذا الفيلسوف المجنون الذي تبنّى أفكار نيتشه وحاول تطبيقها في هذه القرية الصغيرة،  التي لا يؤمن أغلب أفرادها بالأفكار الجديدة الملحدة  ، خصوصاً وأنّ الهداوي كان يقول كلاماً ينكرُ فيه وجود الإلهِ ، هذا الأمر هو ما لم يستسغه فقيه قريتنا
وكان يقول عنه دائماً بأنّهُ مسكونٌ بجنٍّ كافرٍ لا يراعي لله ولا لبيته حُرمةً . ” (ص 28. )

” لقد كنتَ الوقود الذي بفضله تطورت القرية،  وتخلّصت من أوهامها،  كنتَ تُفَنّدُ الأوهام،  وتُسقط الأصنام  واحداً تلوَ الآخرِ ، فكفر بكَ أعيان القرية واتهمك البعض منهم بالزندقة والإلحاد والكفر . ” (ص 92) بينما يراها الراوي نتاجاً للتأثّرِ بأفكار نيتشه
ومحاولة تطبيقها في القرية،  فالفلسفة جزءٌمن حياة الهداوي قبل الجنون ؛ هذا الاحتكاك والتأثّر جعله ينهج التغيير ونبذ الاستبداد والاستعباد،  وتحقيق مثال للانسان الأعلى،  وعندما وُضِعَ أمام الأمر الواقع،  يكتشف أن هذه القرية تربةٌ لا تصلح للزراعة، فيصطدم بسطوة العادات والتقاليد وتقديس الخرافة…

” الرجل المكابر والعنيد والقوي الذي لا يهادن ولا يساوم،  لقد شنّ حرباً شعواء ضدّ القبيلة وعاداتها،  ناقماً على كلّ شيءٍ ، لقد تعلّم شيء ً واحداً فقط ، هو المواجهة،  مواجهة كل شيءٍ وكلّ شخصٍ ، كان مرعباً لكلّ شخصٍ يراه،  لأ نه كان يقول الحقيقة التي تعري الناس وتكشف نواياهم ” (ص32)

بينما المجنون نفسه لا يرى نفسه مجنوناً ، بل مصابٌ بالصرع والأعصاب بفعل الأدوية التي تُقدّمُ لهُ ، وأنّ ضعف الناس أمامه هو ما يجعلهم ينعتونه بالجنون،  فهو يواجه الناس بعيوبهم،  ويعري عن نواياهم الزائفة:

” لقد كان الهداوي تحفة نادرة،  يعجبك في كلامه فهو وإن كان قاسياً إلى الحد الذي يواجه الناس بعيوبهم ؛ إلا أنه كان يقول الحقيقة،  فيضحكك أكثر مما يبكيكَ في كثير من المواقف،  مواجهته هذه للناس هي سبب مشاكله ”  (ص 32.)

” الجنون قاسٍ ومؤلمٌ ، والمحيطين بالمجنون يعرفون شدة ما يعانون منه جرّاءهُ ، المجنون يبعثر أوراق الناس من حوله،  يُحدث فوضى لا تليق،  المجنون يصيب عائلته بعارٍ لا يندملُ وألمٍ لا ينتهي،  الجنون عذابٌ وألم في  نفس الوقت .” ( ص 19.

تيمة الموت: 

يطغى الموت على وقائع رواية ” هواجس الضياع ” ليشارك بدوره في مأساة
“عبد العالي” ، فموتُ الأب ” سي محمد ” شكّلَ صدمةً قوية،  وغرق الأخ نكأ جرحهُ وخلّف ذكريات أليمة،  ثمّ موت الأم التي كانت رمز الحنان،  جعله مهمشاً يشعر بالحرمان.

” لكن ليس للطيبين مكان ، الطيبون هم من يرحلون دوماً ويتركون الأشرار يعيشون حياةً سعيدةً  ” (  ص 19.)

” كان وفاة والد الهداوي نقطة تحول في حياته،  هي التي فتحت عليه أبواب الجحيم،  أو الجنة التي يفتخر بها ، جنة الجنون التي جعلته على هذه الحال راضٍ بعيشتهِ ” ( ص 43

” ها أنت ترقد بجانب أخيك عبد الهادي ووالدك المرحوم سي محمد والمرحومة السيدة عائشة،  تشعر الآن بالأمان،  الذي
كنت تفتقده بيننا..”   (ص 93.

تيمة الذكرى:

 يحضر موضوع الذكرى بكثرة في مسار الرواية،  فالذكرى تشترك مع الجنون لتؤسس لرواية هذيانية تعيش في اللاوعي وتقف على أطلال الماضي.

” يحركني حنين ذكريات بعيدة في هذه القرية الصغيرة النائمة على ضفاف وادٍ يابسٍ ، وقد احتضنته الشمس بلهيبها الدافئ ” ( ص   10.)

” ينتابني شعور مُحبطٌ وأنا أتذَكّرُ السنين التي مضت،  كانت سنين عجاف،  وأنا أهيم في ذاتي المنكسرة،  وأعيش بذكريات هامشية استولت على جزءٍ من كياني  ” ( ص 10.)

الذكرى تفتح الباب لأحزان عميقةٍ ، وتلقي بعبد العالي في دوامات من الهواجس اللامنتهية.  تجعلُ الراوي عاجزاً عن الكلام،  وقاصراً عن البوحِ .

” أنا متعبٌ وغير قادرٍ على الكلام،  لأن قصة عبد العالي أتعبتني وجعلتني أعيد
ترتيب أفكاري  ” ( ص 19. ) فتحت له مجالاً لهواجس حول جنون صديقه وأيام
شبابه قبل الجنون، وملابسات موته،  وما خلّفهُ من أ ثرٍ في حياته.

” أسترجع تلك الذكرى المؤلمة بنفس حزين وآهاتٍ متقطِّعَةٍ ” (ص 87)

تيمة الحب

لم يتطرق الكاتب للحب بكثرة،  فقد خصص له فصلاً واحداً يتضمّنُ قصة حب
عبد العالي،  التي يرويها  بلسانه،  فحضور الحب كان قصيرا ، وبذلك تُزَالُ فرضية أن يكون الحب سبباً من أسبابِ الجنون.

تيمة القرية:

كما قلنا سابقاً : كاتبنا متشبثٌ ببيئته،  ومتعلّقٌ بمحيطهِ ، أفاض في وصف القرية،  ووفّاها حقّها بحسن التدبيج،  وبداعة المعنى،  ورصانة الألفاظ .
كلّما انتقلنا عبر محطات السردِ ، نجدُ وصفاً خفيفاً للقرية،  بأشجارها وجبالها ووديانها،  أو معاناتها . ” في قريتي الصغيرة يرقد الناس كالموتى أشباحاً قد لفظتهم الحياة،  مرّت هذه السنوات بسرعة كالبرق ” (ص11).
واستحضاره لبعض الإشارات في البداية (الصراع حول الأرض- الجفاف ) تلميحٌ لمصير أهل القرية بعد سنوات قادمةٍ ، فالصراعُ حول الأرض خلفَ موتى،  بينما الجفاف تمخَّضَ عنهُ الهجرة إلى المدينة .
” هاجرت فئةٌ كبيرةٌ من الشباب نحو المدينة،  للبحث عن لقمة العيش،  وضرب الجفاف القرية في سنوات قليلة فأقفر الوادي وجفّت ينابيعهُ . ”   (ص93. )
” هذه القرية الميتة  والهاربة من المجاعة   كلّما حلّ الصيف إلاّ وبدا الشحوب على الوجوه،  التي لا تقوى على شدّةِ الحرِّ …( ص94. )

تيمة البحث عن الحقيقة :

منذ بداية هذا العمل السردي،  كان دور الراوي هو كشف الحقيقة،  وتتبع خيوطها،
والتي كانت تتمثل في السبب الفعلي لجنون عبد العالي،  ليس هذا فقط،  بل ؛ موت والده سي محمد وحقيقة الصراع حول هذه الأرض . حقيقة انطلقت من عدة فرضيات ليكتشف في الأخير أن كلّ تلك الفرضيات خاطئة،  وأن الحقيقة سرّ لا يُكتشفُ إلا بعد موت عبد العالي.

تيمة الفلسفة :

كان للفلسفة دورٌ مهمّ في مسار عبد العالي،  وحضرت بشكل كبير خلال السرد،
ويتمثل هذا الحضور في أفكار نيتشه العدمية :

” الكل باطلٌ وكلّ شيءٍ عبثٌ”    (  ص 9 )

” قُل لي يا عبد المجيد،  أيها العاقل من بين هؤلاء الأغبياء و  السّذَّجِ ؛ لماذا نحن نحيا ؟ وكلّ شيء باطلٌ ! وهل الحياة إلا عبارة عن دقّ سنابلٍ والاصطلاء قرب نارٍ تُحرق ولا تدفئُ .” ( ص 24  )

هذه الكلمات العميقة كانت تفتح للراوي مجالاً للدّهشة والسؤال، وكانت تحركه لاكتشاف حياة الهداوي الداخلية والتي تعزز بحثه حول الحقيقة.

” أنتم يا من تعيشون وحدكم اليوم وتقفون،  ستصبحون شعباً في يومٍ من الأيام، سينهض شعب مختارٌ يخرج منه الإنسان الأعلى ” ص27.

يؤمن عبد العالي بأفكار نيتشه؛ بل ويحاول تطبيقها في هذه القرية الصغيرة،  فهو يكافح ضد الاستبداد والاستعباد،  ويبحث عن مثال للإنسان الأعلى .

وحضور الفلسفة يضفي بُعداً  تأملياً ، فالكاتب يخرجنا من رتابة السرد ويفتح لنا باب التأمل وإتمام الفراغات التي تتركها الأسئلة المعلقة.

القوى الفاعلة:

البطل: عبد العالي ، الهداوي: شابّ مجنون ، قبل جنونه كان يدرس الفلسفة في الجامعة،  يؤمن بالحرية،  متأثرٌ بفلسفة نيتشه العدمية،  ويردد أقواله،  ويحاول تطبيق أفكار نيتشه داخل القرية،  فيلقى مقاومة عنيفة من أهل القرية السُّذّجِ . المعرفة الزائدة والصدمات التي تعرض لها قادته نحو الجنون،  فأصبح منبوذاً من طرف الكلّ ، إلا من صديقه عبد المجيد (الراوي.  ) يتبنّى أفكاراً ملحدةً  (رفض فكرة الإلهِ)=  معارضة فقيه القرية الذي يقول أنه مسكون بجن كافرٍ .

يقول الحقيقة التي تكشف عيوب الناس،  يتحمل كل الآلام في سبيل قول الحقيقة.

تعرض لصدمات كثيرة:   (موت أبيه دون لقاء ، موت أمه ، غرق أخيه ، التهميش الذي يتعرض له من طرف أخيه عبد الرحمان ، الصراع حول الأرض بعد موت الأب.  )

وصفه الراوي بأنه هبة الله في الزمان والمكان،  وولي صالحٌ لا يقول إلا الحقيقة،  صوفيّ في هذيانهِ ، فيلسوف بجنونهِ .

الحقيقة :

تلعب الحقيقة دوراً هاماً في مسار الأحداث،  فهي التي تحرك الراوي نحو نهاية الأحداث،  وهي التي تحافظ على حبكة الرواية وتجعل الراوي والقارئ على حدّ سواء يبحثان عن السر الذي أودى بعبد العالي نحو الجنون.
الرهان :

يراهن الكاتب من خلال روايتهِ على إعادة تشكيل المفاهيم ، حول الجنون ، فالمجنون في المجتمعِ  شخصٌ منبوذٌ ، لكنّ وراء جنونه تكمنُ قصةٌ ،  وتراكماتٌ على الذات.  تلك الهواجس التي تنطلق من اللاوعي لتصدر عنها أفعال لا واعية نتيجة لصراعاتٍ كثيرةٍ . الطريقة التي نتعامل من خلالها مع المجانين غير صحيحة  .

وإنّ صحّ القول ، فلفظ الجنون غير لائق ، إنما هو تحرر من رقابة الأنا،  وخروج من قوانين الأنا الأعلى ، ودخول إلى عوالم الهو واللاوعي،  فوراء كل مجنون فيلسوف ، صوفيّ ، آلام وتراكمات.

كما يركز على قريته ليبين  معاناتها ، من الجفاف والهجرة،  التي هيَ هروبٌ من المصير .
هي رواية الهواجس بامتياز،  رواية الهذيان والذات إلا واعية،  رواية الفلسفة والأسئلة المعلقة

اللغة والأسلوب:      

هذه الرواية التي دبّجتها يراعة الكاتب ” الحسين أيت باها ” تمتاز ببساطة الأسلوب لتبليغ المعنى في أبسط صورة من اللفظ وأمتع وجهٍ من السلاسة،  تطغى عليها التعابيرُ  التي تبوح بخبايا الفؤاد،   وتَقِلّ فيها الصور والتشبيهات لتكون أقرب للحقيقة من المجاز وأبعد عن الخيال وأقرب للواقع،  موضوعها سلسٌ وانسيابي،  أقول مجازاً ، الصفحات تمرّ لوحدها .

 

 

اعلان
اعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى