
بقلم: محمد ابراهيمي
في خضم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المغرب، لم يعد النقاش حول التعليم الخصوصي في المغرب مقتصراً على قضايا الجودة و المردودية ومقارنة مستوياته مع التعليم العمومي، بل أصبح يلامس جوانب اجتماعية واقتصادية أعمق، من أبرزها تأثيره المتزايد على قرارات الإنجاب لدى فئات واسعة من الأسر المغربية، حيث برز على السطح واقع جديد يربك اختيارات الأسر ويعيد تشكيل مفاهيم الاستقرار الأسري والإنجاب، فإذا كان التعليم يُعد تقليدياً من وسائل الارتقاء الاجتماعي، فإن النسخة “الخصوصية” منه، كما تتجلى في مغرب اليوم، باتت تمثل عبئاً اقتصادياً يهدد حق الأسرة في الإنجاب، بل ويضع مستقبل التركيبة الديموغرافية للمجتمع ككل على المحك.
ففي ظل تراجع منسوب الثقة في المدرسة العمومية، وانهيار صورتها كمصعد اجتماعي، أصبح التعليم الخصوصي يُنظر إليه كبديل ضروري، لا كاختيار، غير أن هذا البديل مكلف جداً، فحسب تقارير إعلامية، تتراوح رسوم التسجيل الشهري في المؤسسات الخاصة بين 800 درهم في المدن الصغرى، وتصل إلى أكثر من 6000 درهم شهرياً في كبريات المدن المغربية، دون احتساب مصاريف الكتب والنقل والتأمين وغيرها…
هذه الكلفة المرتفعة تدفع عدداً متزايداً من الأسر ذات الدخل المتوسط أو المحدود إلى إعادة النظر في قراراتها الإنجابية، فالعبارة المتداولة اليوم على لسان الكثير من الآباء المغاربة هي “نولد ولد واحد ونقريه مزيان”. وهذا الشعار غير الرسمي يعكس بوضوح كيف أصبح التعليم الجيد عاملاً حاسماً في خفض عدد الأطفال داخل الأسرة.
ويندرج هذا التحول في إطار أوسع يعكس تشكل أولويات جديدة في المجتمع المغربي، حيث تُعاد صياغة مفاهيم مثل “الاستقرار الأسري”، “النجاح”، و”الاستثمار في المستقبل”، ومع تنامي هذا الوعي، تظهر مفارقة لافتة: أصبح الحق في التعليم مانع حمل جديد ينضاف إلى موانع الحمل التقليدية المعروفة.
تُظهر المؤشرات الديموغرافية أن البنية الاجتماعية في المغرب تتعرّض لهزات عميقة و غير مسبوقة، فقد انخفض متوسط سن الزواج عند النساء قليلاً ليصل إلى 24.6 في سنة 2024، مقابل 25.7 سنة 2014، كما انخفض معدل الخصوبة بشكل مستمر حيث انتقل من 7.2 أطفال لكل امرأة في سنة 1962 إلى أقل من 2 طفل (1.97) في 2024، وهو معدل أقل من عتبة تعويض الأجيال المحددة عالمياً في 2.1. وعلى الرغم من ذلك ارتفع معدل العزوبية الدائمة (من لم يتزوّجوا حتى سن 55) ليبلغ 9.4% في 2024، مقابل 5.9% في 2014.
لا يمكن اختزال هذا الانخفاض في معدلات الخصوبة والزواج في تغيّر العقليات أو تحسّن المستوى المعيشي فحسب، بل لا بد من قراءته في ضوء غلاء الأسعار و ارتفاع تكاليف المعيشة، وعلى رأسها كلفة التعليم، فالأسر أضحت مجبرة على الاختيار بين تقليص عدد الأبناء أو ضمان تعليم لائق لهم، وذلك في ظل غياب تعليم عمومي مجاني ومتين يوفّر الحد الأدنى من تكافؤ الفرص وجودة التكوين.
إن الواقع التعليمي بصيغته الراهنة لا يهدد فقط مبدأ تكافؤ الفرص، بل يضع الأسرة المغربية أمام معادلة شبه مستحيلة: إما تعليم جيد… أو أطفال، فمع محدودية العرض العمومي الجيد وغياب سياسة تعليمية شاملة تضمن الجودة والمجانية، تجد كثير من الأسر نفسها مضطرة لإعادة النظر في قراراتها الأسرية، بدءًا من عدد الأبناء إلى توقيت الإنجاب.
إن استمرار هذا الوضع، قد يؤدي إلى ما يمكن وصفه بـ’الانفجار الصامت’: انخفاض تدريجي في معدلات الإنجاب، تصاعد في التوترات الاجتماعية، واتساع مستمر في الهوة بين الطبقات، لذلك، فإن إصلاح المدرسة العمومية لم يعد مطلباً نقابياً أو خطاباً سياسياً مستهلكاً، بل أصبح ضرورة مجتمعية وديموغرافية عاجلة، فلا يمكن للمغرب أن يطمح إلى تنمية بشرية مستدامة في ظل نظام تعليمي يرهق الأسر ويجعل من التعليم الجيد امتيازاً طبقياً، وإلى أن يحدث ذلك، سيبقى التعليم الخصوصي أحد أبرز العوامل التي تحدّ من نمو الأسرة المغربية، في زمن تُرفع فيه الشعارات من أجل تشجيع الزواج والخصوبة.