الدكتور منير القادري يحاضر حول مزايا التأهيل الروحي والتربية على مبادئ الحرية وعلاقتهما بالتنمية البشرية
بقلم أيوب الهداجي
تطرق الدكتور منير القادري الى أهمية التأهيل الروحي والتربية على مبادئ الحرية، مبرزا انعكاسهما الإيجابي على الأفراد وعلى وحدة وتماسك المجتمع، كما بين دورهما الهام في تعزيز سبل التنمية البشرية.
جاء ذلك خلال مداخلته مساء السبت التاسع من شهر أكتوبر الجاري، في الليلة الرقمية الرابعة والسبعين، ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية التي تنظمتها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال.
أكد في مستهلها أن الحرية حقٌ طبيعي لأي إنسان، وعليها قامت الشرائع و الأديان، وأن الإسلام طبَّق مبدأ الحرية تطبيقاً أصيلاً في تشريعه لحرية الاعتقاد والمعتقد، مستشهدا بقوله تعالى { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ }.
وأضاف أن الحرية من صميم دين الإسلام، لأنها أعزّ شيء على الإنسان بعد حياته، وأن الشريعة جعلت كل مسلمٍ حرًّا عزيزًا كريمًا لا سلطان لأحدٍ عليه غير سلطانها؛ وأن حريته مُطلقة ما لم يُخِلَّ بواجباته تجاه ربِّه ودينه وبني ملَّته والخلق أجمعين، وتابع أن من أراد أن يُحسِن سِياجَ الحرية فليستمِع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرضَ فرائِضَ فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهِكوها، وسكتَ عن أشياء رحمةً غيرَ نسيان فلا تبحَثوا عنها»؛ حديثٌ حسنٌ، رواه الدارقطني وغيرُه.
و أشار إلى أن من أهم النماذج على الإطلاق للحرية الإنسانية هو ذلك النموذج الفريد المتمثل في الصحابة، والذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام و من العبودية لذاتهم وشهواتهم إلى عبادة الرحمان، موردا الكلمات المشهورة للصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب (ض) عندما وقف مع أصحابه أمام النجاشي يجيبه عن سبب اضطهاد الوثنية القرشية للمسلمين.
وأوضح أن دعوة الإسلام للحرية لها مقاصد و غايات أخلاقية وإنسانية سامية تختلف عن ما ادعته الحركات التحررية الليبرالية الغربية من أن الإنسان هو سيد الكون و أن حريته الشخصية لا تخضع لأية قيود ولا تحدها حدود إنسانية أو أخلاقية، واصفا هذه الحرية بأنها حرية مشوهة قائمة على الإباحة المطلقة وإطلاق العنان لشهوات النفس وعدم التعرض لأحد في ما يفعله في أموره الخاصة طالما لم يتعرض لحرية الغير، مؤكدا بالمقابل أن الحرية لابد لها من ضوابط و معايير وأخلاق تساهم في بناء حضارة الأمم وازدهارها.
واستطرد موضحا أن الحريةَ الحقَّة دينٌ يتبَعُهُ عملٌ ويصحَبُه حملُ النفس على المكارِه، وجَبلُها على تحمُّلِ المشاقِّ، وتوطينُها على حب الخيرات وترك المنكرات، وحفظ الحُدود والقناعةٌ بالمقسوم، والثقةٌ بالخالق، واستمدادُ العَون منه، معتبرا أن من ذاقَ طعمَ الإيمان فقد ذاقَ طعمَ الحرية، موردا في هذا الصدد مجموعة من أقوال العلماء والمفكرين المسلمين.
وأشار إلى أن المعنى الذي غلب استعماله للدلالة على معنى الحرية في الفكر الإسلامي، كان دائما هو مصطلح الاختيار، وأكد أن الحرية والمسؤولية لا تنفصلان ولا تنفصل عواقبهما في الدنيا والآخرة، وأن المسلم الحق هو من يتوجه بكل كيانه بوعي وحرية إلى ربه بالعبادة، وأنه على قدر اجتهاده فيها يتحرر، وتتحرر لديه إمكانات الفعل، مغالبا قَدَراً بِقَدَرْ: قَدْرَ العجز والكسل بِقَدَرِ الإقدام والمغالبة.
و تطرق في ذات السياق الى تأكيد الفيلسوف الفرنسي “إدكار موران”، على أهمية المكون القيمي والروحي، وأن له قيمة كبيرة في تحفيز طاقة الإنسان نحو العطاء والإبداع، كما أورد تعريف أبو القاسم القشيري للحرية “أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات”، وأوضح أن أصحاب مقامات التربية العرفانية تعاملوا مع الحرية على أنّها نتاج جهد ومجاهدة وليست مُعْطىً إنسانيّاً، وعلى أنّها «حالة معاشة» تتحقّق في جدليّة مع العبودية لله ، فالإنسان عندهم يتحرّر بمقدار عبوديته لله، مذكرا بأقوال مجموعة من العلماء المربين كقول ابن عطاء الله السكندري في التعبير عن معاني الحرية، ناصحاً كل سالك سائر في طريق الله و الهداية “ينبغي لك أن لا تيأس على فقد شيء وأن لا تركن إلى وجود شيء فإن من وجد شيئاً فركن إليه أو فقد شيئاً فحزن عليه فقد أثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه”.
ونبه إلى أن رجالات الصوفية فهموا الحرية الإنسانيّة على أنّها فعل تحرّر من النَّفْس ومن الشهوات والأهواء ومن كلّ من يشغل عن الله سبحانه، وزاد أن التصوف تجربة روحية وتأمل وجودي وتحقق ذوقي شعوري، يفتح آفاق رقي الروح وتعميق الوعي بالوجود، ويرسخ شعور الفرد بقدرته على الاتصال بالذات الإلهية وتحقيق العبودية لله وحده.
وشدد على أن التأهيل الروحي هو الذي يمد الإنسان بأسباب الكمال الخلقي كأساس في بناء الشخصية المتوازنة المعتدلة، وأنه المدخل إلى بناء المواطن النافع الذي يدفع الضرر عن نفسه وعن غيره، مثلما هو السبيل إلى إعداد المواطن الصالح الذي يدرأ الفساد عن نفسه وعن غيره، ليخلص الى أن قيم الحرية والاختيار وتحمل المسؤولية والنفع والصلاح لا يمكن تصور المواطنة الكاملة المنتظرة إلا على مقتضاها.
ونوه بالأدوار الطلائعية التي لعبتها المدارس الصوفية في المغرب، في تأمين حاجيات المجتمع الروحية، بل وحتى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، من خلال تنشئة رجال علماء عاملين ساهموا وضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على وحدة البلاد واستقلالها، وأَثْرَوْ الثقافة المغربية في شتى العلوم، وتابع أن التاريخ شاهدا على هذه الخصوصية الصوفية المندمجة.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن ” تأهيل المجتمع روحياً من خلال تكوين أفراده على القيم الأخلاقية العليا والتحقق بمبادئ الحرية الإحسانية المراقبة لله تعالى في كل لمحة ونفس هو المدخل الحقيقي لبناء مواطنة صادقة صالحة كمعنى روحي يتميز بالتوجه إلى جوهر الإنسان ليزيل عنه العوائق المثبطة، فيصبح قادراً على جلب الإصلاح المبتغى وتقلد المسؤولية أمام الحق والخلق، فتشغله عن النظر إلى حظوظه الذاتية والأنانية، وينصرف إلى خدمة الصالح العام ونفع مجتمعه، وضمان نجاح المشاريع التنموية، و تحقيق أهداف ومقاصد كل مشروع نموذج تنموي”.
وعبر عن يقينه التام بأن هذا الأفق الاستشرافي لمنظومة القيم يمكن أن يضمن للمغرب مكانة رائدة في عالم ما بعد كورونا، مشددا على ضرورة العمل والمثابرة والتعاون جميعا كل من موقعه: حكومة وشعبا مجندين تحت القيادة الراشدة لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله من أجل إعلاء وطننا إلى مصاف الدول العظمى بتاريخه المجيد وقيمه الإنسانية وثوابته الدينية والوطنية.