اعلان
اعلان
مجتمع

الخبراء الأفارقة والعرب يفاجؤن ماكرون

اعلان

 

تناقلت الأخبار المفاجئة التي لم يكن ينتظرها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون يوم الخميس 09 أبريل 2020، لما دخل إلى معهد استشفائي جامعي بمرسيليا، جنوب فرنسا، للقاء الأستاذ راؤول ديدييه، الفرنسي المزداد بالسنيغال، الذي اشتهر في الآونة الأخيرة بأبحاثه المتعلقة بإحضار وصفة لعلاج فيروس كورونا ـ كوفيد 19، ومن الأوائل الذين اقترحوا استعمال مادة الهيدروكسي كلوروكين، ليجد أمامه فريقا متكاملا من أساتذة وطلبة باحثين، ذوي أصول عربية وإفريقية، في أسبوع تحدث فيه طبيبان من دولته عن تجريب الأمصال في إفريقيا، وكشفت سياستها الصحية عن ممارسات تمييزية تجاه الأجانب.
فمجال الإبداع والتكوين والبحث العملي، لا جنسية له، ولا مانع في أن تستفيد البلدان الأكثر تقدما من كفاءات الدول السائرة في طريق النمو، لكن هل هذا يعني أن بلدانهم الأصلية لا تقدر طاقاتهم العلمية والإبداعية؟ أم أن السياسات المتبعة فيها فاشلة ولا ترقى إلى مستوى الاستجابة لطموح الجميع؟
فعلى المستوى الوطني مثلا، وارتباطا بالطلبة الباحثين في مجال الطب بمرسيليا، ودون الحديث عن نسبة 5% المخصصة للطلبة الأجانب الوافدين على الجامعة المغربية، فولوج الكليات السبع للطب والصيدلة، وكليتي طب الأسنان برسم الجامعي الجاري 2019/2020، حددت مقاعدها بالنسبة لشبعة الطب في 2468 مقعد منها 88 مقعدا للعسكرين، وشعبة طب الأسنان في 270 مقعد منها 20 مقعدا للعسكرين، وعدد التلاميذ الحاصلين على شهادة البكالورية برسم الموسم المنصرم وصل إلى 253.808 ناجح، منها 16.227 في الشعب العلمية والرياضية والتقنية، و24.107 في المسالك الدولية للبكالوريا، لذلك يتم اللجوء إلى ملء المقاعد المخصصة للطب عن طريق أسلوب الانتقاء التمهيدي والاختبار الكتابي، وبالتالي إرتفاع عتبات القبول في المرحلة الأولى، مما يجعل العديد من الطلبة الراغبين في ولوج مجال الطب يلجاؤون إلى التسجيل في جامعات أخرى خارج أرض الوطن بما في ذلك بإفريقيا (السنيغال نموذجا). إنها أزمة الاستقطاب المحدود بكليات الطب والصيدلة وكليتي طب الأسنان، وعدم مواكبة الإحداثات لاستيعاب تطور عدد الطلبة الجدد، إضافة إلى الاقتصار على تلقين معرفة مهنية صرفة لا تحفز على البحث العلمي، وهي الأزمة نفسها التي تطال العديد من المعاهد والمؤسسات الأخرى، وتجعل من لم يسجل بها أو يتجه نحو الخارج، مجبرا حتما على التسجيل في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، خاصة كليتي الآداب والحقوق، في ظل غياب برامج أساسية للارتقاء بالجودة التعليمية وتمكين الطلبة من توجيه سليم وتلقائي نحو المسالك الجامعية الملائمة لقدراتهم ومؤهلاتهم الشخصية في أرض وطنهم، دون قيد أو شرط .
وأحيانا، قد تكون الرغبة منذ البداية لدى الطالب في أن يتجه نحو الخارج، لاستكمال دراساته العليا، كما قد يكون ترعرع منذ صغره في تلك الدولة، ويفضل الاستمرار بها بدافع الامتيازات الوظيفية والاجتماعية، وظروف العمل المريحة، التي لن يجد مثلها في وطنه الأم حسب اعتقاده.
كما أن وضعا آخرا، يعيشه القطاع الصحي منذ أمد بعيد، تتجلى في سيادة اختلالات عميقة ومتعددة، تزداد تفاقما مع الأيام، بسبب ارتفاع الطلب على الخدمات الصحية التي تعاني من سوء التدبير، وضعف العرض الصحي والخصاص في الموارد البشرية وغلاء الأدوية والمستلزمات الطبية. إنها إشكالات عميقة، كرستها أزمة غياب التغطية الصحية الشاملة واتساع حدة الفوارق المجالية وصعوبة الولوج إلى العلاجات، هذه الاختلالات كان لها تأثير مباشر على المنظومة الصحية، إذ ساهمت في عزوف الأطباء عن ولوج القطاع العمومي، فالقطاع لم يعد محفزا للأطباء الجدد حديثي التخرج من الجامعة، لكونهم يعلمون جيدا المعاناة المستمرة لأطباء وجراحي الأسنان والصيادلة بالمستشفيات والمراكز الصحية القروية، والظروف المهينة التي يشتغلون فيها، بسبب الاحتقان والضغط الناجم عن مشاكل طول المواعيد الطبية، وتكرار أعطاب الآلات البيوطبية ونقص التجهيزات والأطر الطبية، مما يجعلهم في اصطدامات دائمة مع الوافدين على المؤسسات الصحية، إضافة إلى صعوبة تمكين الأطباء، خاصة بالمناطق النائية من استكمال دراستهم في التخصصات الطبية وتحسين مستواهم العلمي، إنها أزمة السياسة المتبعة في قطاع الصحة والتي أدت إلى استقالة مجموعة من الأطر الطبية والتوجه إلى الهجرة نحو الخارج، أو ما يسمى بهجرة الأدمغة.
وهذا ما جعل معظم المباريات التي تعلن عنها وزارة الصحة، لا تحظى بالإقبال، فمثلا في سنة 2019 مباراة إدماج وتوظيف 500 طبيب لسد الخصاص الحاصل بالمستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات بالمناطق النائية، شارك فيها 143 مرشح فقط، وفي مباراة أخرى لإدماج وتوظيف 274 طبيبا لسد الخصاص، لم يلتحق منهم سوى أقل من 50 طبيبا بالمندوبيات الإقليمية للصحة، لتبقى المناصب المالية المعلن عنها عالقة، ومن هذا المنطلق، ولكون الاشتغال في القطاع العام لا يستهوي الخرجين الجدد، تراجعت الحكومة برسم قانون المالية لسنة 2020 عن تعديل صادر عن مجلس المستشارين بعدما عمل على تعديل المادة 26 برفع عدد المناصب المالية المخصصة لقطاع الصحة من 4000 إلى 5000 منصب مالي، وفي إطار القراءة الثانية بمجلس النواب، إذ بعد أخذ ورد، لجأت إلى الدفع بالفصل 77 من الدستور بدعوى الحفاظ على توازن مالية الدولة، مؤكدة أن هذا العدد لم يسبق للحكومة أن تمكنت في السنوات الأخيرة من توظيفه، وهذا يكشف أن الامتيازات الوظيفية والاجتماعية، والظروف الملائمة للعمل تظل غائبة في سياسة الحكومة داخل هذا القطاع الحيوي، وليست المناصب المالية كما يعتقد العديد.
إن بلادنا اليوم، في حاجة إلى إحداث وأجرأة عوامل تحفيزية مشجعة على الاجتهاد الفكري والابتكار والبحث العلمي، والرفع من المراكز الوطنية البحثية، وأخذ العبرة من الظروف الصعبة والحرجة التي تمر منها، من أجل إقرار إعفاءات ضريبية تخص البحث العملي وبلورة سياسة قوية للبحث والابتكار، بدل الدفع مرة أخرى بالفصل 77 من الدستور، كما فعلت برسم قانون المالية لسنة 2020 لما تراجعت عن تعديل في المادة 57 بشأن إعفاء تعويضات البحث العلمي المدفوعة للأساتذة الباحثين من الضريبة.
فالأزمة اليوم، تكشف لنا حقيقة انعدام مقاربة استباقية تستوعب حاجيات المجتمع الحقيقية من المعرفة والتكوين، خاصة في المجال الصحي، فالكليات الحالية لم تعرف أي تطور ملموس في سياق حاجيات ومتطلبات البلاد، وهو ما يؤكد غياب الملاءمة بين التكوين ومتطلبات المجتمع، وغياب سياسة ترسخ وتكرس آليات البحث العلمي ونجاعته على المستوى التنموي والمجتمعي، حتى أصبح الهم الوحيد لهذه الكليات هو التخبط في إشكالات التمويل وسوء التدبير، بدل تخصيص معظم الاعتمادات والزمن الجامعي لتوفير شروط البحث العلمي وإمكانياته، والتحفيز على الانخراط فيه.
نتمنى أن تستيقظ الحكومة، خاصة أنه في ظل هذه الأوقات العصيبة، أصبحت تعرف قيمة الأطباء، وتعمل على ربط تقديم الخدمات الصحية في مختلف المؤسسات بالاستمرار في البحث العلمي، وتحفز التميز والإبداع والاستثمار في البحث الطبي والكشوفات الطبية، من أجل الحفاظ والاحتفاظ بالطاقات والخبرات والمؤهلات العلمية العليا في القطاع العام، وفوق أرض الوطن.
وإن كانت هذه المرحلة لا تسمح بالوقوف على الاختلالات، فإن المراجعة والنقد الذاتي ينبغي أن ترسم عالمه منذ اللحظة، على أن تتم مباشرة إرساء نموذج متماسك للصحة الاجتماعية يخول للجميع الحق في الصحة، بدءا من الحق في التسجيل في الشعب الطبية إلى التحفيز على الابداع والابتكار والبحث العلمي، مرورا بتحسين ظروف العمل المادية والمعنوية للأطر الصحية، والاستقبال اللائق للوافدين على مختلف المؤسسات الصحية واستفادتهم من الوقاية ثم التطبيب والتداوي، في أحسن الظروف.
فمغرب آخر ممكن، بتظافر الجهود وفتح المجال أمام الاجتهاد الفكري والابتكار والبحث العلمي والتحفيز عليه.

اعلان

اعلان
اعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى