اعلان
اعلان
مقالات الرأي

تونس .. من إضراب 2007 إلى إضراب 2025.. في الحاجة إلى قوة المجتمع في وجه غطرسة الاستبداد

اعلان
اعلان

حسن بناجح:

تونس التي كانت منارة الربيع العربي وأول بلد أضاء طريق الحرية في المنطقة، تعيش اليوم واحدة من أقسى لحظات الارتداد على الثورة. فالمعارضة التي كانت بالأمس صوت التغيير صارت اليوم هدفًا للزنازين من جديد، ورموزها يخوضون إضرابا مفتوحا عن الطعام احتجاجا على القمع السياسي، وفي مقدمتهم راشد الغنوشي، وجوهر بن مبارك، وعصام الشابي. إن هذا المشهد المؤلم يختزل مسار التراجع الذي أصاب التجربة التونسية، ويعيد إلى الأذهان المراحل التي سبقت الثورة حين كان النضال من أجل الحرية يُؤدَّى ثمنه من الحرية نفسها.

اعلان

لقد بدأت ملامح تونس الجديدة تتشكل منذ منتصف العقد الأول من الألفية، حين أطلقت مجموعة من رموز المعارضة في سنة 2007 إضرابا عن الطعام احتجاجا على انسداد الأفق السياسي، وكان ذلك الحدث لحظة وعي وطني أعادت الاعتبار لفكرة الحوار الوطني الشامل. لم يكن حوارا رسميا ولا بإذن السلطة، لكنه كان ثمرة روح وطنية عالية، جمعت بين تيارات فكرية وسياسية متباينة، يسارية وقومية وإسلامية، على قاعدة واحدة: رفض الاستبداد وبناء حياة سياسية تقوم على الحرية والتعدد. تلك الوثيقة التي صدرت عن ذلك الحوار كانت النواة الفكرية والسياسية التي التفت حولها قوى الثورة لاحقا في الحوار الوطني بعد الإطاحة بالطاغية بن علي، وهي التي أفرزت أول توافق وطني حقيقي في تاريخ تونس المعاصر.

لكن المؤسف أن تونس، بعد أن فتحت أبوابها على عهد جديد من الحريات والديمقراطية، لم تصمد أمام إغراء العودة إلى الماضي. فالاستبداد، حين يتربص بالأمم، لا يعود باسم القديم بل بأقنعة جديدة، ويجد في ضعف الثقة بين القوى السياسية وفي انقسام قوى المجتمع فرصته الذهبية للتمدد من جديد. واليوم حين نرى رموز المعارضة التي أسهمت في تأسيس تونس الجديدة يقبعون في السجون، ندرك أن الاستبداد إذا نجح في العودة فإنه لا يستثني أحدا من قمعه. فالذين سكتوا عن اعتقال خصومهم بالأمس وجدوا أنفسهم اليوم بدورهم ضحايا للآلة نفسها، لأن منطق الاستبداد واحد: لا يقبل شريكا له في السلطة ولا صوت يعلو فوق صوته.

لقد كان الأستاذ راشد الغنوشي، منذ عقود، أحد أبرز الأصوات التي نادت بالحوار الوطني الشامل، مؤمنا بأن خلاص تونس لا يكون في الغلبة ولا في الإقصاء، بل في التوافق والتشارك على أسس ديمقراطية صلبة. وبدل أن يُكرَّم على ما قدمه للفكر السياسي التونسي من اجتهادات ساهمت في ترسيخ ثقافة التعدد والتعايش، يجد نفسه اليوم في السجن وهو في منتصف عقده الثامن، رمزا للثمن الذي يدفعه الأحرار في مواجهة النزعة الاستبدادية التي تعصف بتجربة الحرية.

اعلان

إن ما يجري اليوم في تونس ليس شأنا تونسيا خاصا، بل هو إنذار لكل الشعوب التي تحاول شق طريقها نحو الديمقراطية. فالتجربة التونسية تعلمنا أن الثورة لا تكتمل بالشعارات، ولا تصان بصناديق انتخابية هشة خادعة، بل تحتاج إلى وعي جمعي متجدد، وإلى جبهة وطنية حية تدافع عن روحها كلما حاولت قوى الماضي وأجهزة القمع أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. وتُعَلِّمنا أيضا أن الحوار الوطني الصادق هو طوق النجاة الوحيد، وأن القوى التي ترفض أن تجلس إلى مائدة الحوار، وتراهن على الاستفراد بالقرار، إنما تمهد الطريق لعودة الاستبداد الذي سيبتلع الجميع.

لهذا، فإن التضامن مع المعتقلين السياسيين في تونس اليوم هو أكبر من حصره في تعاطف إنساني عابر، بل هو وقوف إلى جانب فكرة، هي فكرة تونس الحرة التي لم تولد في 2011 فقط، بل نمت منذ ذلك الإضراب الجريء عام 2007 الذي آمن أصحابه أن الحرية تُنتزع بالحوار والعمل المشترك. والذين يواصلون اليوم هذا الطريق، من داخل الزنازين أو خارجها، يذكروننا بأن الثورة ليست شرارة عابرة، إنما هي مسار طويل من موجات الوعي ومقاو-مة الطغيان.

اعلان
اعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى