
منبر24
في خطوة تاريخية، صادق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم 31 أكتوبر 2025 على القرار الذي يدعم مقترح الحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب سنة 2007 كحلّ نهائي وواقعي لقضية الصحراء. بهذا القرار، يكون المجتمع الدولي قد انتقل من مرحلة “التعامل الحذر” إلى مرحلة “الاعتراف العملي” بجدية الطرح المغربي، في نزاع دام قرابة نصف قرن وأرهق المنطقة سياسياً وأمنياً وإنسانياً.
اعتبر العديد من المراقبين هذا القرار انتصاراً دبلوماسياً كبيراً للمغرب، تتويجاً لمسار طويل من العمل المتزن في الساحة الدولية، حيث نجح المغرب في تحويل مقاربة الملف من الدفاع إلى المبادرة، ومن ردّ الفعل إلى الفعل الاستباقي، معتمداً على رؤية واضحة جعلت التنمية في الأقاليم الجنوبية عنواناً لجدية المشروع المغربي، كما أسهمت التحوّلات الإقليمية والدولية في تعزيز موقف المغرب، بعد أن اقتنع المجتمع الدولي بأن خيار الحكم الذاتي هو الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق.
الاعتراف الدولي بمقترح الحكم الذاتي ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة تتطلب ترجمة هذا الإنجاز السياسي إلى واقع ملموس على الأرض، على المستوى الداخلي، يتعين على المغرب تفعيل مؤسسات الحكم الذاتي وفق مقترح المغرب، بما يضمن مشاركة فعلية للساكنة في إدارة شؤونهم المحلية ضمن إطار السيادة الوطنية، ويتطلب ذلك وضع أرضية قانونية واضحة تحدد الصلاحيات والآليات، بما يضمن التمثيلية الحقيقية للساكنة ويعزز الثقة في المؤسسات المحلية.
في ظل الظرف الداخلي للمغرب والسياقات المحلية والدولية، باتت اللحظة الراهنة فرصة حاسمة للدولة لتأكيد دورها القيادي ومسؤوليتها التاريخية، فالواجب يفرض تكثيف الجهود لاستثمار هذا الإنجاز الدولي الهام من أجل إحداث تحول ملموس في الملفات الحقوقية والسياسية، بدءاً بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، ووضع أسس مصالحة وطنية شاملة. إن الدولة، بإرادتها السياسية القوية، قادرة على ترسيخ وحدة وطنية حقيقية، وتحويل هذه المرحلة إلى نقطة انطلاق لنهضة شاملة تضمن لكل أبنائها وبناتها مستقبلًا واعدًا، وتنقل المغرب إلى مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار.
على الصعيد الإقليمي، يفرض القرار واقعًا جديدًا على الجزائر والبوليساريو بالرغم من تقليلهم من شأن هذا القرار الأممي، فبعد عقود من المواقف المترددة للمجتمع الدولي بين الدعوة إلى استفتاء غير قابل للتطبيق ودعم المسار التفاوضي، يبدو أن هذا التحول سيعيد ضبط موازين القوى الدبلوماسية في المنطقة، ويفتح الباب أمام جولة جديدة من المفاوضات على أساس الحل الواقعي، بعيداً عن شعارات الماضي وصراعات الحرب الباردة، بالإضافة إلى ذلك، يوفر القرار للمغرب فرصة لتعزيز موقعه كفاعل إقليمي قادر على تحويل النزاعات القديمة إلى فرص للتعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الإفريقية المجاورة، مما يسهم في ترسيخ الاستقرار الإقليمي ويقوي الشراكات الاستراتيجية على مستوى القارة.
في الشق الاقتصادي، يمثل القرار فرصة لتعزيز النمو المتكامل في الأقاليم الجنوبية، وربط الاستقرار السياسي بالتنمية الاقتصادية، فالمشاريع الكبرى، من ميناء الداخلة الأطلسي إلى شبكات الطرق والطاقة، يمكن أن تتحول إلى محرك لجذب الاستثمارات الوطنية والدولية، وخلق فرص العمل، وتحسين جودة حياة المواطنين، ليشعر كل ساكن أن التنمية في المنطقة ليست شعاراً، بل واقع ملموس يضمن الكرامة والمشاركة.
نجاح الحكم الذاتي لن يتحقق فقط بالاعتراف الدولي أو بالإجماع الدولي، بل يتطلب ترسيخ ثقافة الديمقراطية المحلية، وضمان الحقوق والحريات، وتحقيق عدالة مجالية تجعل كل مواطن يشعر بأنه جزء من وطن يتسع للجميع. ويأتي هنا دور الانفتاح السياسي الداخلي، لترسيخ الوحدة الوطنية وتجاوز النزاعات الداخلية، بما يخلق بيئة سياسية واجتماعية مستقرة تسمح باستثمار المنجزات الوطنية.
الرهان الأكبر يكمن في قدرة الدولة على تحويل الاعتراف الدولي إلى نموذج متكامل للحكم المحلي الرشيد، وجعل الصحراء المغربية جسراً للتعاون الإقليمي بدل أن تبقى ساحة للصراع. النجاح في هذه المرحلة يعني تحقيق حياة كريمة لسكان المنطقة، وترسيخ صورة المغرب كقدوة في إدارة النزاعات وتحويل التحديات إلى فرص، مع ضمان الحقوق والحريات، وتعزيز العدالة المجالية، واستثمار الموارد بشكل مستدام.
يقف المغرب اليوم أمام فرصة استثنائية لإثبات قدرته على القيادة، وتحويل قضية الصحراء إلى قصة نجاح دبلوماسي وتنموي متكامل، يضع المنطقة نموذجاً حياً للسلام والتنمية والاستقرار.



