نظمت مؤسسة الملتقى مساء الخميس 29 ابريل الجاري، ندوة تفاعلية رقمية حول “المعاني الروحية للصيام”، عرفت مشاركة مجموعة من السادة العلماء والمتخصصين، وتميزت بالكلمة العلمية التي ألقاها الدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الاسلام اليوم.
عبر في بدايتها عن سعادته بتنظيم هذه الندوة التفاعلية، وأشار الى أن الله سبحانه وتعالى من على أمة نبيه صلى الله عليه وسلم بان جعلها: “خير أمة أخرجت للناس”، وشرع لها مجموعة من العبادات للتقرب منه ونيل مرضاته، من ضمنها الصيام الذي هو رابع أركان الإسلام، موردا مجموعة من الأحاديث النبوية الدالة على مكانته وفضله، منها قوله صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا …”، وقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله كل عمل ابن ادم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صَومِ أحدكم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فان سَابَّهُ أحد أو قاتله فليقل إني امْرُؤٌ صائِم، والذي نفس محمد بيده لَخَلُوفٌ فم الصائم أَطْيَبُ عند الله من ريح المسك”.
وأضاف أن هذا الشهر العظيم يعتبر ملاذا لطاعة الله عز وجل والتقرب إليه، وطلب المغفرة والرحمة والتوبة إليه، مستشهدا بقوله سبحانه وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)(سورة الأحزاب الآية71).
وتطرق الى معنى الصوم في التصوف، مذكرا بمجموعة من أقوال العلماء والمشايخ عن معنى الصوم عند الصوفية، كقول الشيخ فارس البغدادي “هو الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق جل وعلا”، وقول الشيخ أحمد بن مصطفي المستغانمي: “الصوم في شرع القوم هو الإمساك عما سوى محبوبهم”.
ولفت الى أن الصوم عند الصوفية هو معراج إلى الحضرة الإلهية، مضيفا أنه في التجربة الروحية للصوم نجد التأكيد على الجوارح أكثر من سواها، موردا ما عبر عنه الباحث محمد غازي عرابي عن الصوم بأنه “فطم النفس عن شهواتها وهي حاجة ملحة لخروج النفس من قمقمها المادي بمعنى كسرها إياه لا بمعنى المفارقة؛ والصوم عماد الدين بعد الصلاة، هو توأمها ورديفها الثاني، فمن دون الصوم لا يمكن للعبد أن يتفكر في ما اعتاده في حياته من عادات ثابتة”.
وأضاف الدكتور منير أن رمضان عند السادة الصوفية هو شهر نكران الذات، والتخلي عن كل شي إلا الله تعالى ومعرفة ذلك معرفة حقيقية والتمسك بكونها إرادة إلاهية، وزاد أن للصوم عندهم أنواع، كما يرى ذلك الشيخ محمد الكَسْنَزَانْ الحسيني في موسوعته موسوعة الكَسْنَزَانْ “الصوم عن الذنوب، الصوم عن الغيبة، الصوم عن النفاق الصوم عن البهتان، الصوم عن الحسد، الصوم عن النظر الحرام، الصوم عن التجسس، الصوم عن تخريب البلاد، إلى غير ذلك من الأنواع، وكلها تجعل حياة المريد في صوم روحي دائم فليس الصيام أن تترك الطعام والشراب فقط وإنما الصيام أن تترك الذنوب والمعاصي فالصيام صيام الجوارح”.
وتساءل الدكتور القادري عن الرمزية الصوفية لفوائد الصوم ؟ وفي معرض إجابته أورد قول الإمام جعفر الصادق “الصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء وجُلُّ الالتجاء إلى الله وسبب انكسار الهمة وتخفيف السيئات وتضعيف الحسنات”، وقول الحكيم الترمذي “ثمرة الصوم تطهير النفس” واستطرد أن رمزية الصوم عند الصوفية ذات مفاهيم اصطلاحية متعددة معبرة عن مسلكهم الروحي الذي طالما كان غامضاً مفهوماً، ظاهراً باطناً أمام الخلق والعيان، تفردوا بفهمه هم وحدهم أو من سلك مسلكهم، وأضاف أن ذلك المسلك الروحاني يبنى على التجربة الروحية وما تحتويه من اختبارات الحال ونتائج المقام، وزاد “أن مراحل حياة الصوفي بمعنى أو بآخر كلها عبارة عن صيام إلى آخر يوم في حياتهم”، مستحضرا واقعة احتضار السيدة نفيسة وهي صائمة حين ألزموها الفطر”، فقالت: وعجباً، لي منذ ثلاثين سنة أسئل الله أن ألقاه وأنا صائمة فأفطر الآن، هذا لا يمكن…”.
و أكد أن حقيقة الصوم صوم بالجوارح والجنان ورقي بالأخلاق وتربية للضمير شهرًا في العام، وان ذلك يورث في القلب معرفة بالله تعالى ومقامه في بقية الأيام، وأضاف أن من صام حقًّا في رمضان عن المباحات فإنه بإذن الله يصوم بقية عامه عن المحرمات والشرور والدنيئ من الأخلاق.
وهكذا يقول رئيس مؤسسة الملتقى “تبرز الغاية الكبرى من الصوم، إنها تقوي العبد لله في الظاهر والباطن في نفسه ومجتمعه، مراقبة لله وطاعة له، وإيثارًا لمرضاته”، مشيرا الى “انها تجليات مقام المراقبة والصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وكأن “الصوم أداة من أدوات التربية على القيم و تقوى الله و مراقبته، وطريق موصل إلى مرضاته و رضوانه”.
واختتم مداخلته بالقول “إِنَّ الصِّيَامَ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَوَارِحِ؛ فَهُوَ يُعْطِي الْعَبْدَ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ فِي ضَبْطِ غَضَبِهِ، وَكَبْحِ حِدَّتِهِ، وَالصَّائِمُ إِذَا لَزِمَ الصَّبْرَ خِلَالَ شَهْرِهِ فَسَيَخْرُجُ مِنْ مَدْرَسَةِ رَمَضَانَ بِنَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَخُلُقٍ لَيِّنٍ، وَإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، يُمَارِسُهَا سُلُوكًا وَيَعِيشُهَا وَاقِعًا “.