اعلان
اعلان
مقالات الرأي

الإعلام والعنف الرمزي: سلطة خفية تعيد تشكيل الواقع

اعلان
اعلان

نوال مشموم

في عالمنا الرقمي المعقد، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو الترفيه، بل تحوّل إلى قوة ناعمة قادرة على إعادة تشكيل الوعي الجماعي وتكريس أنماط فكرية واجتماعية محددة. ومن بين أخطر الآليات التي يُمارس من خلالها تأثيره هو ما يُعرف بـ”العنف الرمزي”، ذلك العنف الخفي الذي يتسلل عبر اللغة، الصور، والرسائل الإعلامية ليعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية بشكل غير مباشر ودون إدراك واضح من المتلقين.

الإعلام كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة

يُعرّف عالم الاجتماع بيير بورديو العنف الرمزي بأنه فرض أنماط فكرية وقيمية على الأفراد والمجتمعات بطريقة تجعلهم يتقبلون أوضاعهم الاجتماعية وكأنها طبيعية، بل وحتى مرغوبة. الإعلام يلعب دوراً جوهرياً في هذا السياق، إذ يسهم في إعادة إنتاج الصور النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي، الطبقات الاقتصادية، وحتى الهويات الثقافية.

اعلان

في ظل هذا التأثير المستمر، يصبح الإعلام منصة تُكرَّس عبرها التحيزات الاجتماعية، حيث يتم تصوير بعض الفئات على أنها مسؤولة عن مشكلات المجتمع، بينما يتم إضفاء الشرعية على امتيازات فئات أخرى، مما يرسخ اللاعدالة داخل البنية المجتمعية.

كيف يُشكل الإعلام الإدراك؟

تثبت الدراسات أن التعرض المستمر للمضامين الإعلامية المُنحازة يمكن أن يؤثر على سلوك الأفراد وتصوراتهم حول العالم. فالأطفال الذين يشاهدون محتوى عنيفاً بشكل متكرر يصبحون أكثر عرضة لتبني سلوكيات عدوانية، كما أظهرت تجربة “دمية بوبو” التي أجراها عالم النفس باندورا. غير أن هذا الأثر لا يقتصر على العنف الجسدي، بل يمتد إلى التلاعب بالعقول من خلال فرض تصورات منحازة عن قضايا سياسية واجتماعية، مما يؤثر على خيارات الأفراد وسلوكهم بشكل عميق دون وعي مباشر منهم.

الإعلام بين التماسك الاجتماعي وإعادة إنتاج التفاوتات

رغم أن الإعلام يُطرح أحياناً كأداة لتعزيز الوحدة الاجتماعية، إلا أنه في كثير من الأحيان يُستغل لتأجيج الفروقات الطبقية والتمييز بين الفئات المختلفة. فالصور النمطية المتكررة تؤدي إلى تهميش بعض الفئات وإقصائها من المشهد العام، مما يؤدي إلى فقدان الشعور بالانتماء الاجتماعي أو يدفع إلى التمرد على الواقع المفروض.

اعلان

لذلك، بات من الضروري مساءلة الدور الذي يلعبه الإعلام في إعادة إنتاج العنف الرمزي، والسعي نحو تفكيك الخطابات الإعلامية التي تكرّس التفاوتات الاجتماعية. وهذا يتطلب تعزيز التنوع في المحتوى الإعلامي ومنح الفئات المهمشة منصات تعبيرية تُتيح لها إيصال صوتها بحرية ودون قيود.

نحو وعي إعلامي ناقد

إن إدراك العنف الرمزي الذي يمارسه الإعلام يستلزم وعياً نقدياً يُمكّن الأفراد من تفكيك الرسائل المضمرة داخل المحتوى الإعلامي، سواء كان ذلك في الأخبار، الأفلام، الإعلانات، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي. فالإعلام ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو قوة خفية تُعيد تشكيل الواقع وفق مصالح قوى معينة. لذا، فإن بناء وعي إعلامي ناقد يُعدّ خطوة ضرورية نحو مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً.

إضافة خاصة:
في عام 2019، حين كنتُ تلميذةً في السنة الأولى من سلك البكالوريا، خرجت هذه المقالة إلى النور بين جدران المؤسسة التعليمية خديجة أم المؤمنين، تحت أنظار وتأطير أساتذتي الأفاضل الأستاذ مصطفى رازق والأستاذة سعيدة غوال، اللذين صقلا فكري وزرعا في قلمي بذور الوعي. كانت آنذاك كلمات تبحث عن شكلها، فكرة تتلمس ملامحها الأولى في حضن المعرفة. واليوم، بعد أن مرّ الزمن ونضج الحرف واتسعت الرؤية، أعود إليها لا كعابرة سبيل في ذاكرة النص، بل كمن تعيد إحياء ملامحه، تمنحه بعدًا آخر، ورؤى أكثر عمقًا، كأنني أكتبها من جديد، لكن بوهج التجربة ودفء الإدراك.

اعلان
اعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى