
بقلم: عبدالرزاق أزبير
في مدرجات كرة القدم، ثمة ما هو أكبر من الأهازيج والرايات. هناك طاقة بشرية تنبض بانتماء يتجاوز حدود اللعبة، انتماء لا يمكن تفسيره بالمنطق، بل هو أقرب إلى الإيمان. إنها ثقافة “الألتراس”، التي لا يمكن اختزالها في مجرد تشجيع صاخب، بل هي هوية جماعية، ونمط حياة، وطقوس تحمل دلالات تتعدى المستطيل الأخضر.
في زمن العولمة والتكنولوجيا، ظهرت الألتراس كملاذ آمن للأفراد الباحثين عن الانتماء، حيث تذوب الذات داخل الجماعة، ويصبح “نحن” بديلاً عن “أنا”. لا وجوه هنا، لا أسماء لامعة، لا صور فردية تملأ الشاشات، بل قناع وصوت، وذراع مرفوعة تهتف باسم الفريق. وحدها الجماعة تتصدر المشهد، بينما يتوارى الفرد طوعًا ليصبح مجرد خلية في جسد أكبر، ينبض بروح الولاء.
هذا الولاء ليس رومانسية ساذجة، بل التزام صارم. فالألتراس لا يتعامل مع المباراة بوصفها تسعين دقيقة للفرجة، بل ساحة نضال صوتي لا يُسمح فيها بالجلوس، ولا بالتخاذل، ولا بالتشكيك. الهتاف هنا طقس مقدس، والتشجيع فعل مقاومة ضد البرود، وضد السوق، وضد فكرة أن الجمهور مجرد مستهلك. الألتراس يرفض أن يُختزل في رقم على شاشة، ويرفض أن تُباع هويته مقابل بطاقة موسمية.
حتى في الهزيمة، لا يصمتون. يواصلون الغناء كأنهم يربّتون على كتف الفريق المنكسر. إنهم لا يفرّقون بين فوز وخسارة، لأن الانتماء، في فلسفتهم، لا يُقاس بالنتائج. وهنا تكمن المفارقة: الألتراس لا يشجّع من أجل الفوز، بل من أجل الفكرة، وفكرة الانتماء للفريق أسمى من جدول الترتيب.
ربما لهذا السبب تُرعب الألتراس بعض المسؤولين، وتُربك الشركات، ويُخشى صوتها العالي. لأنها تمثل شكلاً من التنظيم الشعبي الحر، غير القابل للضبط. لا قائد، لا واجهة، فقط “الكابو” يلوّح من المنصة، وكتلة تهتف دون كلل، تصنع من المدرج مسرحًا حيًا لولاء صلب.
في زمن بات فيه الصوت الجماعي يتآكل أمام النزعات الفردية، يقدم الألتراس نموذجًا صارخًا لمجموعة تعرف ما تريد، وتدافع عنه بشغف لا يُشترى. في عيونهم، المدرج ليس مقعدًا، بل موقف. والهتاف ليس تسلية، بل تعبير وجودي عن انتماء نادر.
قد لا نكون جميعًا من الألتراس، لكننا في زمن الهشاشة نحتاج إلى شيء من صلابتهم.
وهنا، أوجّه رسالتي بوضوح إلى كل من بيده القرار، سواء في الحقل الرياضي أو في دوائر السياسة: استمعوا لصوت الألتراس. لا تحجّموه، لا تهمّشوه، ولا تنظروا إليه كتهديد. فهؤلاء الشباب، حين يهتفون لفريقهم، فإنهم في العمق يهتفون لوطنهم، ويؤمنون بأن المدرج وطنٌ مصغّر، يُمارسون فيه حريتهم وولاءهم ومواطنتهم بطريقتهم الخاصة.
إن مستقبل كرة القدم في بلادنا لا يُبنى فقط بالصفقات والمدرّبين، بل بقلوب الجماهير، ولا جماهير أوفى من الألتراس. هم الطاقة التي تُعيد للمدرجات روحها، وللمباريات نكهتها، وللرياضة معناها الحقيقي.
فدعونا لا نخسر هذه الظاهرة، بل نحتضنها، ونفهمها، ونفتح لها الأبواب بدل أن نحاصرها… لأن الألتراس ليسوا ضد الوطن، بل هم جزء لا يتجزأ منه.