
في مؤتمر مهني انعقد يوم أمس بمدينة البوغاز ، مسقط رأس الفقيدين النقيبين عبد الرحمان اليوسفي و مصطفى الريسوني ، اعتلى وزير العدل المنصة، وتوجه إلى القاعة التي غصّت بالمحامين بكلمة افتتاحية استهلّها باعتذار. بدا الاعتذار شخصيًا، يحمل نبرة ودّ واحترام للمهنة، لكن الردّ الجماعي من القاعة جاء حاسمًا وكأن لسان الحال يبوح صادقا دون انفعال :
“الاعتذار مقبول أخلاقيًا لأنك زميل، ومحامي مهنة،
لكنه غير مقبول سياسيًا، لأنه جاء بعد فوات الأوان،
بعد تمرير قوانين لا تنصف المحاماة، ولا تنقذ العدالة، ولا تخدم الوطن.”
لم يكن هذا الردّ مجرّد انفعال لحظي، بل تلخيص دقيق لمفارقة بنيوية:
أن تكون وزيرًا زميلًا، لكنك تُدبّر سياسات تُضعف المهنة.
أن تعتذر بأدب، في حين تُمرر قوانين بالوكالة والتفويض بصمت.
أن تحتمي بالانتماء المهني، في وقت تُنفذ فيه من موقعك التنفيذي ما يقوّض هذا الانتماء ذاته ، وتلك مفارقة مرتبطة بطبيعة النظام
وإن هذا المشهد يلخص عمق الأزمة:
أزمة ثقة، وأزمة سردية، وأزمة شرعية.
فحين أعلن الفكر ما بعد الحداثي عن موت السرديات الكبرى، لم يكن يشي بانتصارٍ جديد، بل بكشفٍ صارخ لحقيقة التفتت: تفتت المعنى، والمرجعية، بل وتفتت الأدوار. صارت الذوات موزعة بين سرديات مجهرية، تتصارع في الهامش وتُقصى من المتن. وفي قلب هذا المشهد، تقف مهنة المحاماة، لا كامتدادٍ لسردية حقوقية عظيمة، بل كصوت مبعثر، يتموقع على تخوم العدالة، ويحاول أن يَظلَّ شاهدًا ومُقاومًا في آن.
لقد تحوّلت المحاماة من فاعل مركزي في تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، إلى كيان يُعاد تأطيره ضمن سردية أمنية ضيقة. لم تَعُد “المرافعة” فعلاً عقلانيًا داخل نظام عدلي، بل صارت تُشكّك فيه كتصرف قابل للتأويل الأمني. وهكذا، بدأت ملامح التضييق المُمنهج تتجلى، لا فقط في النصوص والمساطر، بل في الرموز واللغة والممارسات.
- من الدفاع إلى الشكّ المُمَنهج: تفكيك مكانة المحامي
إن المهنة التي ارتبطت تاريخيًا بتمثيل المهمّشين ومساءلة السلط، صارت تُعامَل كمصدر إزعاج، وأحيانًا كمُشتبه فيه. تمّت شيطنة الدفاع في الخيال العام، وتغوّلت السلطات في ممارسة سلطتها التأديبية، فصار من المشروع أن يُعاقب المحامي على اجتهاده، وأن يُستدعى لتفسير موقفه، وأن يُحاصر بمساطر تأديبية تخلو من ضمانات الاستقلال. وهذا الوضع يُعيدنا إلى سؤال جوهري:
هل لا تزال المحاماة فاعلًا في سردية العدالة، أم أُلحقت نهائيًا بسردية الضبط والتحكم؟ - عنف السردية الرسمية: حين تُختزل العدالة في القرار الأمني
نحن بإزاء تحوّل هيكلي في مفهوم العدالة. فلم تَعد منظومة العدالة تسعى لتحقيق الإنصاف والتوازن، بل أضحت تُدار بمنطق التطويع والإخضاع. المحامي، الذي كان وسيطًا ضروريًا لتقويم العلاقة بين المواطن والمؤسسة، أصبح عنصرًا غير مرغوب فيه، لأنه يفكك الرواية الرسمية، ويُطالب بضمانات قانونية تتجاوز منطق التعليمات.
في هذا السياق، ومهما كان شعار النؤتنر وتمنيات المحامين من خلاله ؛ تُدرج المحاماة ضمن السرديات الصغرى، لا لأن دورها تقلّص طبيعيًا، بل لأن بعض الجهات ( في عمق السلطة) تريد تحجيم أثرها الرمزي، وكسر ما تبقى من قدرتها على مساءلة المسكوت عنه ، كآخر قلاع التصدي والصمود الحقوقي . - من المهنة إلى المقاومة: نحو أفق عدالة انتقالية توقعية
لكن، وفي قلب هذا الانكسار، يُمكن أن نقرأ المفارقة التوقعية: حين تختنق الوظيفة، تُولد المقاومة. وعندما تُقيد المساطر، يتسع المعنى.
إن المحاماة، من حيث كونها حاملة لذاكرة القانون الحي، قادرة على أن تتحوّل إلى ضمير انتقالي، يعيد وصل ما انقطع بين الحقوق والحريات، بين النص والواقع، بين الدولة والمجتمع.
هذه الرؤية لا تنبع من الحنين لسردية مهنية قديمة، بل من حاجة استراتيجية لبناء عدالة توقعية، تُعيد الاعتبار للدفاع، ليس فقط كحق، بل كقوة رمزية تُعيد التوازن في زمن اللايقين المؤسساتي. - الأصوات المبعثرة ليست ضعفًا: بل مادة سردية بديلة
في النهاية، ليست المحاماة مطالَبة بإعادة إنتاج سردية كبرى، بل بصياغة سرديات بديلة، متفرقة، متنوعة، لكن مشبعة بروح النقد والاستباق والتحول. يكفي أن تظل هذه الأصوات يقِظة، يقظة الضمير حين يتواطأ الجميع، ويقظة العقل حين يُفرَض الصمت.
فالذي يُرافع اليوم، وهو يعلم أنه قد يُستدعى بسبب مذكرته، أو يُحاسب على تغريدة، لا يُمارس وظيفة فحسب، بل يُمارس فعلًا مقاومًا بمعناه المدني الأقصى.
خاتمة توقعية: من المحاماة كدور إلى المحاماة كرسالة
نحن بحاجة اليوم إلى مقاربة جديدة تُعيد تموقع المحاماة داخل الحقل العدلي والاجتماعي، مقاربة تُدرك حجم التحولات، دون أن تستقيل من المبادئ.
إنّ المحاماة التوقعية، ليست فقط ما تدافع عن ضحية اليوم، بل ما تُؤسس لوعي قانوني يُمكنه أن يُفكك سردية الغد، ويمنع عودة مظاهر الاستبداد في لبوس الشرعية.
مصطفى المنوزي
رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي