اعلان
اعلان
مقالات الرأي

السردية التربوية في مواجهة الغش والتدليس وتنافس السرديات الأمنية والدينية: أزمة المعنى في الحقل التعليمي

اعلان
اعلان

بقلم مصطفى المنوزي
منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية

في سياق متقلب تعصف به التحولات السياسية والاجتماعية، باتت المدرسة المغربية تشهد تآكلًا تدريجيًا في سرديتها التربوية الأصلية، التي كانت – ولو نظريًا – مبنية على قيم التنوير والعقل والمواطنة والارتقاء الاجتماعي. في المقابل، تسللت سرديات بديلة، أمنية ودينية، تنازعها الشرعية الرمزية داخل الفضاء العمومي والمؤسساتي، بينما تستفحل ظواهر الغش الأكاديمي، التدليس، وشراء الشهادات، مما أدى إلى إرباك منظومة التكوين وتقويض معنى الحرية الأكاديمية، بل وتفريغ الإفتحاص التربوي من مضمونه الإصلاحي.

اعلان
  1. المدرسة كمجال للصراع السردي وتنازع المقاربات
    لم تعد المدرسة فضاءً محايدًا، بل تحولت إلى مسرح لتنازع سرديات متضادة:
  • السردية التربوية التي تقوم على المواطنة والنقد وبناء الإنسان؛
  • السردية الأمنية التي تحوّل المدرسة إلى آلية ضبط وإخضاع؛
  • السردية الدينية التي تسعى إلى استعادة الهيمنة على القيم والمعاني من بوابة التأويل العقدي.
    هذا التنازع لا يتم فقط على مستوى الخطاب، بل يُترجم إلى سياسات وقرارات وممارسات داخلية تُصيب المتعلم والمدرس والمفتش في صميم دورهم ومعناهم ووظيفتهم.
  1. الغش الأكاديمي والتدليس: حين تُصنع النخب بالكذب
    يتوازى هذا الصراع السردي مع اختلالات بنيوية عميقة تتجلى في تفشي الغش وشراء الشهادات العلمية وتوظيف المراكز “التكوينية” كوسائط لاقتصاد ريعي معرفي. لم يعد الغش انزلاقًا فرديًا، بل صار سلوكًا مُمأسسًا يزكيه التساهل، وتتغاضى عنه مؤسسات، وتستثمر فيه فئات تبحث عن الوجاهة والامتياز دون اجتهاد حقيقي. وفي هذا السياق، تفقد الشهادة الأكاديمية رمزيتها، ويتحول “المكوِّن” إلى كائن إداري فاقد للمعرفة الحية، يمارس التكوين بالقص واللصق، ويفتش الآخرين دون مرجعية علمية. فكيف نطالب بجودة التعليم، وأدوات التكوين نفسها مغشوشة؟
  2. الإفتحاص التربوي: من آلية تطوير إلى أداة ضبط
    المفروض أن يكون الإفتحاص التربوي آلية لتجويد الأداء وضمان العدالة البيداغوجية، لكنه غالبًا ما يُفرغ من مضمونه ليصبح مجرد تقنية تفتيشية تخضع أحيانًا لمنطق العلاقات الزبونية أو الانتقائية أو تصفية الحسابات. وذلك نتيجة خلل ثلاثي:
  • ضعف تكوين المفتحصين؛
  • غياب المعايير الواضحة؛
  • تأثر العملية التقييمية بمنطق الضبط الإداري بدل الدعم التربوي.
    وهكذا يُفرَغ الإصلاح من روحه، وتُصاب المدرسة بجمود تشخيصي لا ينتج فعلًا تربويًا تحويليًا.
  1. الحرية الأكاديمية تحت الحصار: بين الأمننة والإيديولوجيا
    أمام هذا الواقع، يطفو خطر آخر: التضييق على الحرية الأكاديمية، سواء بذريعة محاربة التطرف أو مواجهة التوظيف الإيديولوجي للمؤسسات. فبينما تُبرَّر مراقبة المضامين بضرورات الأمن العام، يتمدد منطق المراقبة ليمس الاستقلال الجامعي، ويحوّل المدرسة والجامعة إلى ذراع وظيفي للدولة لا فضاء للنقد والتفكير الحر.
    بل الأخطر من ذلك، أن تصبح حرية البحث والمعرفة رهينة لـ”لجان افتحاص” لا تستند إلى المعايير الأكاديمية، بل إلى معايير الأخلاق السلطوية أو الصواب السياسي اللحظي.
  2. نحو عقد سردي تربوي بديل: استعادة المعنى قبل المنهاج
    لا سبيل لإصلاح حقيقي دون تحرير السردية التربوية من هيمنة التدليس والغش، ومن استلابها للسرديات الأمنية والدينية في صيغها الضيقة. المطلوب هو:
  • إعادة بناء سردية تربوية عمومية تدمج القيم الدينية والأمنية ضمن أفق مواطني نقدي متوازن؛
  • تجريم الغش الأكاديمي ومأسسة آليات النزاهة العلمية؛
    ربط مسؤولية التكوين بالكفاءة لا بالولاء أو الحظوة؛
  • صيانة الحرية الأكاديمية بميثاق وطني يضبط الحدود ولا يفرض الوصاية؛
  • إعادة تعريف وظيفة الإفتحاص التربوي باعتباره أداة مواكبة وتحفيز، لا رقابة أو إذلال.
  • فاقد الشيء لا يعطيه. ومن لا يؤمن بحرية المعرفة لا يمكن أن يُعلّم التفكير. ومن يسترخص الشهادة لا يمكن أن يبني الوطن.
    لقد حان الوقت لأن نعيد للمدرسة والجامعة معناهما، لا فقط عبر الإصلاحات التقنية، بل عبر استعادة الضمير التربوي في وجه هيمنة التدليس وتنافس السرديات .
  1. هشاشة التكوين ومصير الدولة وعقم التحديث
    إن استمرار هشاشة تكوين الأطر في قطاعات التعليم، الإدارة، القضاء، والإعلام لا يهدد فقط جودة الخدمات، بل يُعرّض الدولة نفسها لتآكل مشروعيتها وضعف مناعتها الاستراتيجية. فحين تتولى النخب المصنَّعة بالتدليس مسؤولية القرار والتوجيه، تتحول المؤسسات إلى هياكل بلا روح، وتفقد الدولة قدرتها على التخطيط والابتكار والتفاوض مع المجتمع ومع الخارج. إنها أزمة مصير، لا مجرد اختلال في الأداء. ولذلك، فإن الإصلاح التربوي والتكويني ليس ترفًا قطاعيًا، بل هو رهان سيادي وجودي.

اعلان
اعلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى