يعتبر الشيخ سيدي المختار القادري بودشيش واحدا من أبرز رجال المقاومة في تاريخ المغرب المعاصر، فبعد احتلال مدينة وجدة في بدايات القرن العشرين، نهض الشيخ سيدي المختار بودشيش نهضة الأسد الهصور، ملبيا نداء الإيمان والوطن، غير محتمل أن تحتل أرض المغرب وخاض معارك بطولية في مقاومته للاحتلال الفرنسي للمنطقة الشرقية، لذلك اعتبر من رموز المقاومة في مغرب ما قبل الحماية، وهو ما جعل الأستاذ عبد الله العروي في بحثه عن الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية في مغرب ما قبل الحماية ” les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912 )”، يقدمه كزعيم للمقاومة، وسنعرض صفحات من تاريخ هذا المقاوم البطل عبر حلقات من أجل تسليط الضوء على جانب من الدور الجهادي المقاوم لشيوخ الزاوية القادرية البودشيشية.
وذكر المؤرخ “قدور الورطاسي” في كتابه “بنو يزناسن عبر الكفاح الوطني”، أنه بعد احتلال مدينة وجدة، التجأت قبائل بني يزناسن إلى الشيخ السيد المختار البوتشيشي بصفته من آل البيت، من الذين وهبوا أنفسهم للتربية الدينية، ليكون على رأس المجاهدين حتى يطرد الفرنسيين من وجدة وترجع عاصمتهم الشرقية إلى حاضرة الوطن، وإن السيد المختار هذا قبل منهم ذلك واستنفر الناس وجند الجنود، وعين كل بطل من أبطال بني يزناسن قائدا على فرقة.
ووفق ما ورد في كتاب “شمال المغرب الشرقي قبل الاحتلال الفرنسي، ( 1873- 1907م)”، لعكاشة برحاب، فقد “التفت قبائل بني يزناسن حول الشيخ سيدي المختار القادري بودشيش الذي انتصب زعيما للجهاد، فصالح بين القبائل وسوى الخلافات التي ترتبت عن صراع المخزن مع الروكي في المنطقة، كما قام حسب ما أورده عبد الصادق القادري بوتشيش في كتابه “النبوغ الصوفي في قبائل بني يزناسن”، بتشكيل قيادة حربية لعمليات المقاومة ضمت عددا من زعماء بني يزناسن المشهورين في المنطقة مثل: القائد الدخيسي من بني عتيق، ومبارك الرسلاني من بني وريمش، ومحمد بن لحسن الخالدي من بني خالد وغيرهم؛ إضافة إلى بعض أقاربه مثل أحمد بن إدريس بن المختار الثاني، والشيخ سيدي بومدين بن المنور بن المختار الثاني القادري بودشيش، والذين كانا مكلفين بالاتصال اللوجيستيكي بلغة اليوم أو “الرقاص” بلغة ذلك الوقت، وهو المكلف بتبليغ الأوامر القيادية إلى رؤساء العمليات في الموقع الحربي.
كانت أولى قرارات الشيخ المختار البودشيشي كما نشرت ذلك جريدة Le Petit Parisien، الفرنسية يوم 2 أبريل 1907، تتمثل في طرد بعض قواد القبائل الذين تلاقوا مع الجنرال ليوطي بوجدة وأظهروا استعدادهم للتعاون مع المستعمر، فتدخل إذاك الجيش الفرنسي بدعوى حماية المتعاونين معه، فوقعت أول مواجهة بين بني يزناسن والقوات الفرنسية يوم 7 أكتوبر 1907م.
خاضت قبائل بني يزناسن وعرب تريفة بقيادة الشيخ سيدي المختار القادري بودشيش معارك ضارية ومواجهات عنيفة ضد الجيوش الفرنسية رغم البون الكبير في العتاد والعدة بين الطرفين، مع اتباع خطط حرب العصابات المبنية على الكر والفر، والهجوم المباغث واستدراج العدو إلى الكمائن وقطع خط العودة على قواته.
وقد اشتدت حدة هذه المعارك خلال شهري نونبر ودجنبر 1907م، تكبدت خلالها القوات الفرنسية خسائر مادية وبشرية تمثلت بصفة خاصة في معركة فم صفرو بتاريخ 23 نونبر 1907م ومعركة باب العسة بتاريخ 27 نونبر، وحسب عدد من المصادر من بينها كتاب “Historique du 2° régiment de Spahis”، المطبوع بتلمسان بالجزائر سنة 1920، وعدد 29 نوفمبر 1907 من جريدة “Le Petit Parisien “، فقد قتل في هذه المعارك عدد كبير من الجنود وكذا بعض كبار الضباط الفرنسيين، من بينهم: الملازم الأول “Jacque ROZE”، والعميد “Fourier LATAPIE”،والملازمين” DAVIN”، وSAINT” “HILAIRE ” والرقيب ” POGGI”، والجنديين “LAUBROT” و “ASMUS” وغيرهم.
وأمام فداحة الخسائر في صفوف القوات الفرنسية، سواء على مستوى الجيوش أو العتاد، عملت السلطات الفرنسية على نهج سياسة التعتيم وإخفاء الحقائق خصوصا على الرأي العام الفرنسي، حيث نجد مثلا جريدة LA TAFNA في عددها 2245 الصادر بتاريخ الأربعاء 18 دجنبر 1907م ، وجريدة Le Petit Parisien في العدد الصادر بتاريخ 11 دجنبر 1907، تشيران الى أن لا أحد يعرف بالضبط مجريات الأحداث على الحدود المغربية الجزائرية…، وذلك مخافة انكشاف الحقائق خصوصا لدى التيار الفرنسي المعارض للحملة العسكرية الفرنسية على بني يزناسن؛ يضاف إلى مسألة الخسائر العسكرية الفرنسية سبب آخر دفع الجنرال ليوطي إلى منع مراسلي الصحف والجرائد من مرافقة قواته، ويتمثل في سوء معاملة الجنود الفرنسيين للأسرى المغاربة من قبائل بني يزناسن، كما ورد في كتاب “(Contre le Brigandage Marocain, Déclarations en cours d’assises (décembre 1907، في الصفحتين 34 و35.
وسعيا الى كبح المقاومة الشرسة لقبائل بني يزناسن بزعامة شيخ الزاوية البودشيشية السيد المختارالقادري، ومن أجل محاصرتها اقتصاديا، قام الجيش الفرنسي بمحاصرة جبل بني يزناسن عسكريا واقتصاديا، وأغلق في وجههم أسواق شرق المغرب الحدودية من البحر إلى رأس العين، ثم قرر أن يشمل الحظر أيضا قبائل عرب تريفة لأنهم آزروا بني يزناسن نظرا للمصلحة المشتركة التي جمعتهم وهي الدفاع عن أراضيهم، وفق ما ذكره عكاشة برحاب في كتاب “شمال المغرب الشرقي قبل الاحتلال الفرنسي، و ما ورد في العدد 16411 من جريدة Le Petit Journal ، الصادر في 02 دجنبر 1907.
وحسب رسالة من الجنرال “Servière” قائد الكتيبة 19 بالجزائر إلى الجنرال PICQUART وزير الدفاع القرنسي مؤرخة بتاريخ 10 نونبر 1907، فإن إغلاق هذه الأسواق كان عديم التأثير على بني يزناسن وأهل تريفة، إذ كان بإمكانهم الحصول على السلع الأوربية من مليلية وإفشال المحاصرة الاقتصادية، والحصول على الأسلحة من منطقة كبدانة حيث كان الشيخ سيدي المختار يتنقل بنفسه لشرائها، قررت السلطات الفرنسية بعد ذلك، منع القبائل المذكورة من حرث أراضيها بسهل تريفة وأنكاد، وأعطيت الأوامر للجيش الفرنسي لمصادرة الدواب وآلات الحرث وتفريق التجمعات القبلية.
يذكر أن الجنرال ليوطي قد لجأ إلى العمل السياسي لخلق انقسامات بين قبائل بني يزناسن وعرب تريفة، وفق كتاب “شمال المغرب الشرقي قبل الاحتلال الفرنسي “، وجند لذلك الغرض بعض شيوخ وزعماء القبائل الذين مالوا إلى مسالمة الفرنسيين بعد أن أغروهم بالمال منذ شهر يونيو 1907م.
وظل الشيخ سيدي المختار متشبثا بموقفه المناهض للاستعمار الفرنسي ورفضه لأي مزايدة أو مساومة على استقلال المغرب وحريته، فقد أوردت السيدة Mme Marie de Grand’Maison في روايتها الأدبية التاريخية “Une Razzia au Maroc” حوارا بين الشيخ سيدي المختار القادري بودشيش وبطل الرواية Georges والذي كان يحاور بصفته مبعوثا من طرف الشيخ بوعمامة، ورغم أن الرواية لم تخرج عن بقية الكتابات الاستعمارية الفرنسية التي وجب الاحتراز والتحفظ من بعض مضامينها وأفكارها، فقد جاء في ثنايا هذا الحوار إشارات عديدة على أن الشيخ سيدي المختار لم يكن فقط مقاوما ومجاهدا بالسلاح، بل كان أيضا فقيها وعالما مدركا لما يحدق بالمغرب من أخطار وواعيا بالعواقب التي يمكن أن تنجم عن احتلال فرنسا للمغرب سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي …؛ وقد ورد في آخر هذا الحوار جواب الشيخ سيدي المختار قائلا أنه “ما دام في المغرب شبر واحد من الأرض قادر على أن يسعه، فإنه يفضل أن يعيش فيه على أن يستسلم للعدو المستعمر”، « Rapporte lui de ma part que, tant qu’il y aura au Maroc un pouce de terre capable de recevoir le vieux Boutchich, il préférera y errer que de se rendre à un tel ennemi »
تجدر الإشارة إلى أن مقاومة قبائل بني يزناسن بزعامة الشيخ سيدي المختار القادري بودشيش، قد حظيت بتغطية اعلامية مهمة من عدة جرائد دولية، من امريكا وايطاليا واسبانيا وهولندا وفرنسا.