شارك مساء أمس السبت 19 دجنبر 2020، الدكتور منير القادري بودشيش، مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، في الليلة الرقمية الثانية والثلاثين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، بمداخلة حملت عنوان: “البناء الروحي للإنسان أساس نهضة الأوطان “.
أكد في بدايتها أن الرسالة المحمدية هي منهاج حياة، وأنها عطاء إلهي متجدد يوفر للإنسانية قيمتها الروحية والأخلاقية، ويوضح لها معالم طريقها واستقامة حياتها ، وأن الأمة الإسلامية ليست حدثًا عارضاً في حياة الإنسانية، بل هي ذات أصل ثابت وفرع ممتد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بفضل الله إلى قيام الساعة.
وأوضح أن بناء ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻳﺄﺗﻲ ﻗﺒﻞ كل بنيان، كونه محور كل تقدم حقيقي ومستمر، وأن القرآن الكريم أسس لبناء الإنسان بناء متكاملا شاملا للجوانب الروحية والعقلية والجسدية، مستدلا على ذلك بمجموعة من الآيات القرآنية.
وأشار إلى أن الإسلام حين يغرس في روح الإنسان حبّ الخير والصلاح وأعمال البر، إنّما يقصد خلق نموذج إنساني تتجسد فيه كلّ مقومات الصلاح والنبل والجمال، ليكون نافعا ليس لنفسه وأهله فحسب، وإنّما للعالم أجمع، مذكرا بأن النبي صلى الله عليه وسلم اختصر رسالته في قوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ».
وتساءل القادري إذا هدمت الأسرة والتعليم وأسقطت القدوات، من سيربي النشء على القيم؟ وفي معرض إجابته حذر من أن هدم الأسرة يكون عبر هدم دور اﻷم فيها بجعلها تخجل من وصفها ب” ربة بيت” ، وأن هدم التعليم يكون عبر جعل المعلم لا أهمية له في المجتمع والتقليل من مكانته حتى يحتقره طلابه، وأن إسقاط القدوات يكون بالطعن في العلماء وشيوخ التربية والتقليل من شأنهم، والتشكيك فيهم حتى لايُسْمَعُ لهم ولا يُقتدي بهم، موردا مقولة لأحد المستشرقين “إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث: اهدم الأسرة والتعليم وأسقط القدوات”.
وخاطب الشباب قائلا “أيها الشباب أنتم عُدَّةُ أنفسكم وأهليكم ومجتمعكم ووطنكم وأمتكم، وأنتم أملها ورجاؤها بكم تُعَمَّرُ البلاد والعباد، وبكم تَنهضُ وتَزدَهِر”، داعيا إياهم الى سد الطريق على العدو من خلال “التعاون و الإجتهاد والوحدة وحب الوطن والمواطنة الفاعلة”، موضحا أن “البناء كبير، والهدم سهل”، ومؤكدا أن “لا مكان لكيد كائد أو شر حاسد بين شعبٍ يقِظ يُدرِك معنى البناء، ويقِف حارِسًا أمينًا، ساهرًا مُخلِصًا لوطنه وشعبه وملكه وثوابته “.
وأوضح أن التصوف الذي هو مقام الإحسان جاء كحل وطريق مساهم في تحرير الإنسان من الضغوطات وشحذ همته لمواصلة السير، و تحقيق التوازن بين متطلبات الروح والجسد، وبين أن التصوف هو تزكية للنفس وأنه تربية و علاج روحي يؤطره شيخ عارف مأذون في التربية الروحية مصداقا لقوله تعالى في سورة الفرقان ( الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) (الآية 59)، مضيفا أن هدف التصوف الأسمى هو تحرير الإنسان في عالم مضطرب، عبر ما يعرف بالتحلي والتجلي ثم التخلي، مستشهدا بالحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً”.
وزاد أن التصوف هبة قلبية تُشعِرُ الانسان بسمو الأخلاق وتُجلِي وتدفع عنه كل العوارض و الابتلاءات، فهو اجتهاد في العبادات وعملية تأملية للذات وتحقيق للتواصل مع الآخر، مشيرا الى أن ذلك يعبر عن عبقرية مقام الإحسان.
وأشار الى أن البعد الروحي لديننا الإسلامي الحنيف جعله ينفرد بفكرة لا يشاركه غيره فيها، وهي أن البناء على المقاصد الأصلية يُصيِّر تصرفات المكلف كلها عبادات، سواء كانت من قبيل العبادات أو العادات.
وأبرز أن التصوف السني الاحساني يؤسس لثقافة السلام و نشر قيم التسامح و التعايش في المجتمع، وانه اخذ على عاتقه المساهمة في تجديد الخطاب الديني وفقا لثوابت الأمة، وذلك عبر تبني خطاب معاصر مبني على أدبيات الوعظ والإرشاد بالحكمة و اللين وبالتي هي أحسن، محترما بذلك التعدد الثقافي الذي تعرفه المجتمعات ومحققا في الآن ذاته تواصل كوني هدفه الأوحد هو تربية الإنسان على محبة أخيه الإنسان و تخليق الحياة العامة، مستشهدا بالحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بـالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه»، إضافة إلى أقوال مجموعة من أقوال العلماء.
واعتبر أن الأخلاق هي مفتاح تقدم الأمم ونهضتها، فبصلاحها يصلح حال الأمة فتنطلق نحو الجد والاجتهاد في الحياة الدنيا، وبفسادها يفسد حالها فتنتشر الكبائر ولا تقوم قائمة لدور الأمة الحقيقي.
ونبه الى أزمة الأخلاق التي تعيشها الأمة، هذه الأزمة التي جعلت أوضاعها كارثية في عدة مجالات حيوية كالتعليم والصحة البيئة والثقافة، وذلك بسبب إهمال البعد الروحي الذي يحقق للنفس البشرية توازنها.
وأشار الى اهتمام التصوف الجنيدي التربوي الموصل لمقام الإحسان بالجانب الروحي وبتنميته عبر التربية على الأخلاق والفضائل لإصلاح الأمة من القاعدة وليس من الهرم، وشدد على أنه لبناء وطن متقدم ومزدهر علينا أن نبني رجالا ونساءا بشخصيات وسمات خاصة وتأهيلها ليس فقط لحمل أعباء بناء الوطن ولكن لتجاوز الأزمات بثبات وإيمان قوي وإعتقاد جازم في الله.
وأوضح الدكتور منير أن
كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات في الزمن المعاصر، و كثرة حوادث الانتكاس والارتكاس بين العاملين للإسلام ممن أخدوا علمهم عن الكتب و ليس من أفواه الرجال، وهو ما يبعث على الخوف من أمثال تلك المصائر والمآلات حيث تنعدم المعرفة الحقيقة والعلم الأصيل الممنهج بأصوله وقواعده وأخلاقه، إضافة الى عدم العلم بما نحن مقبلون عليه، أهو ابتلاء أم بداية التمكين، مؤكدا أنه في كلا الحالين نحن في أمس الحاجة إلى بناء أنفسنا، وأشار الى سبب آخير يتمثل في أننا نريد أن نبني عالما مشرقا مع غيرنا، وأن من عجز عن بناء نفسه، فهو أعجز وأقل من أن يبني مع غيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، مصداقا لقوله تعالى﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
وتطرق الى مجموعة من عوامل القوة التي اعتمدها الرسول -صلى الله عليه وسلّم- في بناء الوطن، أولاها أن بناء الإنسان مقدّم على بناء العُمران وثانيها بناء وحْدَة الصفّ المجتمعيّ، وثالثها بناء منظُومة العمل والاقتصاد المستقلّ وحُسْن توظيف الطاقات، ورابعها بناء الأمَل في النفوس والقلوب، وخامسها بناء القيم والأخْلاق الفاضلة وسادسها قوّة العِلــم والتعليـم.
وأكد أن الاستثمار الحقيقي في الوطن يكون ببناء الإنسان أولاً، عقيدة وثقافة وفكرًا وأخلاقًا واقتصادًا؛ باعتباره أول ركن رئيس في أي خطة للبناء في البلدان والأوطان؛ وأضاف أن النفوس والقلوب تبنى بذكر الله تعالى، مصداقا لقوله عزوجل في سورة الرعد (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الآية 28]، وأن ركائزها تؤسس على الأخلاق الفاضلة، والآداب الإسلامية، والشيم والمروءات، موردا الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَن ” ، وتابع أن البناء والإعمار لكل شيء يكون على ما يحبه الله ويرتضيه ومعاملة الناس بالخلق الحسن.
وشدد على أن الأزمات الحالية منها والقادمة تحتاج إلى بناء قوي عماده الدين الحنيف، والأخلاق الكريمة، والمروءات والشيم الإسلامية، و أشار الى أن لشخصية الصوفي المسلم المحسن الذي تتحقق فيه مقولة ” الصوفي ابن وقته ” سمة من أرفع السمات تميزه عن غيره، تتمثل في قوة الإيمان، التي تستحثه لارتياد مسالك الخير والاجتهاد في طلب الخيرات وتجعل منه إنساناً قوياً لا يخشى في الحق لومة لائم، وهو ثابت الشخصية لا تزلزله عواصف الحياة ونوائب الدهر، لانه يستمد يقينه من عقيدته الثابتة التي تمنحه القوة والرسوخ، متحليا بالأخلاق والقيم، مصلحا لنفسه ومحيطه منتجا لقيم الخير والعطاء.
و اختتم كلمته بالتذكير بما يقوم به شيخ الطريقة القادرية البودشيشية فضيلة الدكتور مولاي جمال الدين حفظه الله، كما هو حال رجال التصوف من تربية المريدين على الاقتداء بالمنهج المحمدي في تربية النفس على مكارم الأخلاق وحثها على المسارعة للخيرات وحب الوطن والتحلى بالقيم الإنسانية نهجا وعملا حتى يكونوا سفراء لقيم الرحمة والمحبة والسلام.