الدكتور: حسن العسري
الحمد لله النافع الضار، خالق الداء والدواء، والمنافع والمضار، بيده النفع والضر، والخير والشر، والنهي والأمر، الحكيم القهار، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وأفضل المتوكلين، المستسلم للقضاء والأقدار، وعلى آله وأصحابه الأطهار أولي التيقظ والاعتبار.
أما بعد فالواجب على المسلم حينما تجتاحه النوائب وتدهمه الجوائح والدواهي، الاعتبار بمن سبق من الأقوام السالفة والغابرة، فالأنبياء أنفسهم لم يسلموا من المصائب والفتن، سواء منها التي تهلك النفس أو المال، كيف لا! وربنا سبحانه وتعالى يقول:” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ“[1]، والخطاب موجه لعموم الخلق لا يستثنى منه آحاد الناس لا بسبب عرقه، أو جنسه، أو لونه، أولغته، أو دينه، فعندما يعم البلاء، لا استثناء بين البر والفاجر، ولا الصالح والطالح، فالكل سواسية حينما تكثر الفاحشة، ويعم الظلم، ويسود الفجور، فعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت: ((يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: نعم إذا كثر الخبث))[2].
وما نشهده اليوم من هجوم هذا الوباء “كورونا أو كوفيد 19″، الذي عم البلاد وأذاب الأكباد، وغمَّ النفوس وألقى الرعب في قلوب العباد، فأصبحت حالهم أشبه بقوله تعالى: ” وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا”، فأين المفر؟ وكيف السبيل وقد أصبح العالم كله محاصرا بهذا العدو الغير المرئي الذي حصد آلاف الأرواح في أقل من شهر؟
ومن سنن الاعتبار التي وجب على المسلم الأخذ بها في هذا الزمن العصيب، الصبر على البلاء، يقول ربنا جل جلاله:”لَا تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”[3]. وكيف لا يصبر المسلم على البلاء، وهو يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وكيف لا يصبر وقد بشره الله تعالى برحمته وهدايته، وهل المؤمن إلا وقَّافٌ عند حدود الله، ممتثل أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو عبد لله في جميع أحواله، في سرائه هو عبد مأمور، وفي ضرائه هو عبد مأمور، وكلُّ أموره خيرٌ، فالخير يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن أيمانه وعن شمائله، لا يضجر، ولا يسأم، ولا يقلق، ولا يحزن، ولا ييْأَس، ولا يبتئس، لأنه يعلم أن الكل من الله، فهو الضار، وهو النافع، وهو الذي ينزل البلاء، وهو الذي يرفعه “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون”[4]، ولأنه يمتثل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))[5]، فحياته دائرة بين خيرين لا شر فيها ولا بأس، وليس ذلك لغير المؤمن الذي يصيبه الهلع والذعر حين يُبتلى ببلية، فيتسخط على الله وعلى عباده، ويتمنى أن لو أصيب كل الناس بمصابه حتى تخف وطأة الابتلاء وهيهات هيهات.
وكيف لا يصبر المومن على هذا الوباء وصاحبه إن احتسب الأجر على الله هو من الشهداء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الشهداء خمسة، المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))[6].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطاعون شهادة لكل مسلم))[7]. فيالها من بشارة، ويالها من نعمة إن أدى المسلم حق الصبر فيها، شهادة لا طِعان فيها ولا قتال ولا براز ولا كَرَّ ولافرَّ، بل هو رحمة من الله وإن ظهر في طي النقمة، فكم من نقمة تحمل في طياتها نعما كثيرة.
والوباء وإن ظهر أنه عذاب وشقاء، يفُتُّ العضد، ويكْلِمُ الكبد، يأخذ الأحباب، ويذهب بالأصحاب، فهو رحمة من الله على المومنين الصابرين المحتسبين، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرني: ((أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد))[8]. فأي نعمة هذه، وأي فرحة هذه، وأي أجر هذا ينتظر المؤمن من صبره على البلاء، وإنما يأخذ المطعون أجر الشهيد إذا لم يخرج من بلده الذي وقع فيه الوباء، أو بيته إذا أصيب به، وأن يكون في حال إقامته قاصدا بذلك ثواب الله، راجيا موعوده، وأن يكون عارفا أنه إن وقع فهو بتقدير الله تعالى، وإن صرف عنه فبتقدير الله، وأن يكون غير متضجر به أن لو وقع به، فإذا وقع به فأولى أن لا يتضجر، وأن يعتمد على ربه في حالتي الصحة والعافية، وحري لمن اتصف بهذه الصفات في زمن الوباء أن يحَصّل أجر الشهيد.
ومما يثلج الصدر، ويقر العين، أن هذا الوباء وإن أصاب الأمة الإسلامية فإنه لا يكون انتقاما من الله لهم، بل تذكيرا وتخويفا،” وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا”[9]، ورغبة منه في إظهار الذل والافتقار إليه، وصدق الاعتماد عليه، وحسن اللجوء إليه، والتضرع بين يديه، وإخلاص الدعاء له، والله تعالى لا يسلط الوباء ابتداء، بل يسلطه حينما تطغى البشرية، وتدعي القوة، وتستمرئ الفجور، تستبيح المحرمات، ولا يؤمر بالمعروف، ولا يُنهى عن المنكر، ويفشو الزنا، وتشيع الفاحشة، فعن عائشة أم المومنين رضي الله عنها قالت” ((إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها، هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها نارا وشنارا، فإذا استحلوا الزنا، وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف، غار الله في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم، فقال أنس: عقوبةً لهم؟ قالت: رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين ونكالا وسخطة وعذابا للكافرين))[10].
والواجب على المسلم زمن الوباء أن لا يدخل الأرض التي فيه، وإذا حل بأرض هو فيها فلا يجوز له بأي حال من الأحوال الفرار منه والخروج من هذه البلاد، حتى لا تستشري العدوى استشراء النار في الهشيم، فعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إن هذا الوباء رجز أهلك الله به بعض الأمم قبلكم، وقد بقي منه في الأرض شيء، يجيء أحيانا ويذهب أحيانا، فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها))[11].
ومما ينبغي للمسلم عمله عند الوباء، رد المظالم، والتخلص من التبعات، والتوبة من العود إلى شيء من المعصية والندم على ما فات منها، إذ هي أعظم مناسبة للرجوع إلى الله قبل انسداد باب التوبة بغرغرة أو بطلوع شمس من مغربها، وكثرة الدعاء إلى الله، والابتهال إليه، وإظهار الافتقار، بكثرة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار، فالاستغفار مانع من العذاب، “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”[12]، وكثرة الدعاء برفع البلاء والاستعاذة بالله منه، كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من الجنون والبرص والجذام وسيء الأسقام))[13]، والدعاء أمر محمود ليس فيه اعتراض على قدر الله، إذ هو من قدر الله، فكما يتقى بالتُّرس من رشق السهام، فإنه يُتّقى الوباء والأمراض والأدواء بالدعاء، إذ هو من الأسباب الشرعية التي شرعها الله لعباده في سنن التداوي، زيادة على الأخذ بالأسباب المادية الداعية إلى البحث عن الدواء، فقد قال عليه السلام: ((يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال دواء، إلا داء واحدا، قالوا يا رسول الله وما هو ؟ قال: الهرم))[14]، شريطة أن لا يعتقد في أن هذا الدواء هو السبب في شفائه فيكون كمن قال الله فيهم : “وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا”[15]، بل عليه أن يقتدي بني الله أيوب في صبره على الداء، وفي حسن دعائه له عز وجل بقوله: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”[16].
ومما يجب على المسلم في هذا الظرف العصيب عدم الخروج، وملازمة البيوت امتثالا لأولي الأمر وطاعة أهل الاختصاص من الاطباء والعلماء، لما في المخالطة من إمكانية العدوى لقوله عليه السلام: ((لا يوردن ممرض على مصح))[17]، وقد أكد العلماء على أنه إذا شهد طبيبان عدلان على أن مخالطة الصحيح للمريض موجبة لفساد الصحيح، فالامتناع عن المخالطة جائز، بل قد يصل إلى الحكم إلى الوجوب لما فيه من الفساد، فكيف والوضع الحالي أنه اجتمعت كلمة الأطباء في العالم كله على وجوب المكث في البيوت لما في المخالطة من نذارة بفناء البشرية وانقضائها، وليس ذلك متعارضا مع قوله عليه السلام: ((لا عدوى))، إذ العدوى لا تعدي بطبعها، وإنما بإرادة الله تعالى فهو مسبب الأسباب، فالعرب قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعتقد أن الصحيح يمرض بسبب مخالطته للمريض، فتنتقل العدوى إليه، فيمتنعون من مخالطته، لذلك أبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم بقوله: ((فمن أعدى الأول))، حينما سألوه عن الجمل الأجرب يختلط بغير الأجرب فتَجْرَبُ الإبلُ، جواب ذلك ما قاله ابن حجر في الفتح، وحاصله من أين جاء الجرب الذي أعدى بزعمهم، فإن أجيب من بعير آخر، لزم التسلسل، وهذا محال، أو سبب آخر، فليفصح به، فإن أجيب: بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعى، وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى[18].
وختاما فعلى المسلمين في أصقاع المعمور في ظل هذه الجائحة سؤال الله تعالى العافية والسلامة لطلبه عليه السلام ذلك من ربه (( غير أن عافيتك هي أوسع لي))، ولحثه عليه السلام أمته بطلب العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وبالمعافاة في الأسماع والأبصار والأبدان، ولتعليمه صحابته بالدعاء بهذا الدعاء عند الملمات: ((ربنا الله الذي في السموات تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، اللهم كما أمرك في السماء فاجعل رحمتك علينا في الأرض، اللهم رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وذنوبنا وخطايانا، ونزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك))[19]، والصبر والتصبر والاصطبار والدعوة إلى ذلك، لقوله عليه السلام: ((من أُعطي فشكر، وابتُلي فصبر، وظَلم فاستغفر، وظُلم فغَفر ثم سكت، فقالوا : يا رسول الله ماله ؟ قال: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون))[20].
وليعلم أن الصبر على هذا الابتلاء دليل حب الله تعالى،فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط))[21]. وليوقن أن الرجل لتكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها، ولو بالشوكة يُشاكها كما قال عليه السلام، فكيف بمثل هذا الوباء الذي يودي يوميا بالآلاف من الناس في مشارق الأرض ومغاربها. وليجعل نصب عينيه أن هذا الوباء مما يكفر الله به الخطايا، ويغفر به الذنوب، ويمحو به السيئات، ويرفع به الدرجات في أعلى الجنات.
وعليهم أن يعرفوا لله قدره، وأنهم مربوبون، وأن الله قادر على إفنائهم في طرفة عين، ولولا رحمته ما ترك على ظهرها من دابة، وأن الله أكبر من كل شيء، أكبر من المال والولد والزرع والضرع، وأن الأمر بيده يفعل مايشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، له الحكم والأمر، ما شاء كان ،وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا ينفع إلا حسن الظن به، ولا يَحْسُنُ الظن إلا بسيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فمن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يسمعوا ويطيعوا، ويلتزموا الشروط، ويخضعوا للضوابط، وينصاعوا للقوانين، ففي ذلك صلاحهم وصلاح الناس أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة البقرة 154-157.
[2] رواه مالك في الموطأ، كتاب: الكلام، باب: ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة.
[3] سورة النور، 11.
[4] سورة يس، 82.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، من حديث صهيب الرومي.
[9] سورة الإسراء، 59.
[10] أخرجه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، في المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ج4/561، كتاب الفتن والملاحم، باب: أما حديث أبي عوانة. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
[11] أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني، باب الوباء والطاعون، تحقيق عبد الرحمن الأعظمي، 11/146.
[12] سورة الأنفال، 33.
[13] عبد الرزاق في المصنف
[14] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطب، باب: ما جاء في الدواء والحث عليه.
[15] سورة الحشر، 2.
[16] سورة الأنبياء، 83.
[17] البخاري في الصحيح، كتاب: الطب، باب لا هامة.
[18] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ، دار المعرفة، 10/241.
[19] مسند الأملم أحمد، مسند فضالة بن عبيد الأنصاري.
[20] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج7/138.
[21] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء.