بقلم حسن سمر : أستاذ باحث في الفلسفة السياسية
في البداية سنحاول أن نمعن النظر في المنهج الذي توخاه ماركس في فلسفته السياسية، وفي بناء نظريته حول الدولة، هذا المنهج يؤكد على الابتعاد عن المطلق، والتركيز على الصفة العلمية وعلى وحدة المنهج والمحتوى العلمي الذي ينطلق منه. بحيث أن هذا المنهج الماركسي يرفض كل إضفاء للمطلق على الحقائق الخالدة أو على أي موضوع قد يوجد لذاته خارج الذات، “يجب الانطلاق من التجربة الإنسانية ذلك أن العالم المحسوس ليس هو ذاته في نظر ماركس، شيئا اخر سوى الفعالية العملية للحواس الإنسانية(الأطروحة الخامسة عن فيورباخ) ولكن ليس موضوع المعرفة ولا قدرة الذات على المعرفة ثابتتين: الموضوع والقدرة يوجدان في علاقة فعالية جدلية ديالكتيكية،وأن المعرفة الأولى للإنسان هي أيضا مباشرة كليا للطبيعة وليست إلا وعيا حسيا والموضوع الذي تعرفه ينفلت منها في الحال”.
من خلال هذا النص يتبين أن كارل ماركس يعتبر أن البحث يجب أن يستقل عن الإديولوجيات وأولها مفهوم المطلق الذي يضفي على الموضوع نوعا من التحيز واللاموضوعية، ولا يجب أن على هذا المطلق أن يحكم العلاقة بين الطبيعة والإنسان لأنها سيرورة بها يبرر الإنسان وجوده، والإيديولوجيا حسب ماركس هي الوهم الذي يقوم على طرح معرفة تعد نفسها مستقلة عن السيرورة الحيوية للإنسان وعن وجوده الاختياري، والعلاقة بين المعرفة والإنسان هي علاقة جدلية ديالكتيكية، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن ماركي ينطلق من الواقع باعتباره منهجا يفضي إلى المعرفة، وهو نفسه الذي أدى به إلى الارتباط بالفكر الثوري المعارض للإديولوجيات، وبه سينتقد العلاقة بين طبقات المجتمع. إذن من خلال هذا المنهج كيف نظر كارل ماركس إلى الدولة؟ وما علاقة ذلك بنقده للرأسمالية؟.
الصراع الطبقي والدولة
لقد ارتبط فكر ماركس من خلال دراسته المعرفية بمسألة الصراع الطبقي وتأثيره على المجتمع، بل يذهب إلى القول بأن الدولة ما هي إلا ثمرة الصراع الطبقي، فمنه تولدت أول مرة لكي تحاول إخماد نيران هذا الصراع الذي نشب بين طبقتين متناقضتين اقتصاديا، فطبقة تتوفر على وسائل الإنتاج وتطمح إلى الربح والعمل تراكم وزيادة الأرباح “إن البرجوازية في نظر كارل ماركس هي الناتج والفاعل والمستفيد من بعض التحولات الكبرى التي ننتجها جميعا، أن تبعد إلى ما لا نهاية الحدود التي كانت توثق قوة الإنسان الإنتاجية مثل إزالة الأفق الجغرافي المحدود بفضل حركات الملاحة الكبيرة ونمو التجارة غير المحدود ، والتحرر من الحدود التكنولوجيا والمؤسسة على أنماط الإنتاج تقسم العمل الصناعي وإلغاء اللوائح التقليدية الحرفية وجعل السوق عالمية، الأمر الذي وسع المجال الاقتصادي”.
يتبين إذن أن هذه الطبقة تجعل من الاقتصاد العامل الأساس في المجتمع وبواسطته تتحكم في سلطات الدولة، وهكذا تصير الدولة دولة رأسمالية، مما يؤدي إلى تكريس الصراع بين الطبقة البرجوازية والطبقة العمالية داخل المجتمع الواحد، فانصهار الدولة الذي سيأتي في ما بعد سطوة الرأسمالية وإهمال الطبقة الفقيرة سيجعل من الصراع أكثر قوة واحتداما وهو ما سيؤدي إلى اضمحلال الدولة، وهذا النص يبين لنا كيف انتشرت الطبقة البرجوازية داخل العالم، “وقد أحدثت البرجوازية الناشئة (ملاك قوى الإنتاج) ثورة في الإنتاج الاقتصادي، وهو ما أدى إلى تعجيل نمو الإنتاج الصناعي، وترجع جذور الثورة البرجوازية إلى اكتشاف أمريكا والطريق حول رأس الرجاء الطالع إلى الشرق الأقصى والمستعمرات التجارية الجديدة التي قامت نتيجة لتلك الاكتشافات، وقد أعطت هذه التطورات كما يقول ماركس قوة دافعة لم يسبق لها مثيل للتجارة والملاحة والصناعة، وساعدت على النمو السريع للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي”. يتحدث كارل ماركس عن طبقة لا يمكن أن تستمر في حكم الأفراد بمجرد امتلاكها لوسائل الإنتاج، كما يبين أنها غير صالحة بتاتا لبناء دولة يتساوى فيها أبناء المجتمع، ويدعوا إلى القطع مع الفكر البرجوازي الذي يستبد بوسائل الإنتاج ويسيطر على الاقتصاد وعلى مصادر الثروة الموجودة داخل المجتمع، أمام هذا الواقع الذي تصبح فيه الطبقة البروليتارية مجرد أداة في يد البرجوازية وتصبح خاضعة للسلطة الرأسمالية. والبروليتارية عموما هي طبقة العمال الذين تمارس عليهم قوانين الرأسماليين وجشعهم يقول عنها ماركس ” إن البروليتارية هي الوجه المقابل للبرجوازية على نحو ما، وهي مثلها قد تبحث عن نمو القوى الإنتاجية،وعن تراجع جميع التقييدات التي كانت تكبح الإنتاج والتجارة، وهي مثلها لها نزعة عمومية لكن في السلب: هي عمومية البؤس واللاملك واللاوجود، فقانون النظام الرأسمالي يمثل في أن لا يستطيع البروليتاري أن يجد العمل لإعالة حياته بحيث لا يستطيع ما ينمي عمله رأس المال، ويفقد عمله ذاته صفة الإنسانية بحيث يصبح العامل مجرد ملحق للألة ولا يعود العمل ثقافة لمن يكب عليه، ويعدوا العامل لا متمايزا أكثر فأكثر، إذ تمحي الصفات المميزة لفردية العامل ويضفي البروليتاري شيئا أكثر فأكثر تجريدا وقابلية للبديل أي أداة عمل ونفقة إنتاج ويغص المصنع الكبير بالجماهير العمالية التي تختفي فيها كل شخصية والتي لا تمثل مجتمعات حقيقية، وتتضخم هذه البروليتارية مطردا بجميع نفايات الفئات الاجتماعية الأخرى وجميع المحسوبين عنها، الدين لا طبقة لهم”.
يبدو إذن أن البروليتارية هي ذلك الشبح الذي يطارد البرجوازية لكي تعترف بأن البروليتاري هو مصدر ثروة البرجوازية، فهي ما يمثل الإنتاج داخل الدولة، لأنها فئة عمالية تشتغل بالمصانع التي يمتلكها البرجوازي، لكن لماذا تعاني هذه الطبقة من البؤس والتقليل من قيمتها؟، إنه الصراع الديالكتيكي الذي يسميه ماركس بالصراع من أجل الاعتراف، بصيغة هيغل الصراع بين العبد والسيد، من هنا انطلق نقد ماركس لهيجل الذي قسم المجتمع إلى العبيد والأسياد، بالإضافة إلى تصوره للتاريخ، ما جعل ماركس أن تأخر ألمانيا سببه الفكر الهيجلي، وماركس وصل إلى أن البروليتاري يعمل مقابل لا شيء فقط من أجل بقائه، وهذا ما ركزت عليه البرجوازية وعملت على المحافظة على هذا النهج لكي تبقى مسيطرة على الطبقة الكادحة والسلطة السياسية، وماركس قال بالتوحش الرأسمالي وبالعقلية الاستغلالية التي تتبناها البرجوازية في حق الطبقات الأخرى.
استعمل إذن كارل ماركس الصراع الطبقي من أجل فهم الظواهر الاجتماعية، وعلاقة المجتمع بالحروب والأوبئة والثورات والغنى والفقر، وانتهى إلى القول بأن كل المجتمعات في صراع دائم، مادامت الأطماع تتنافس على السلطة والثروة، كما يؤكد على أن القوي وصاحب الهيمنة هو من يستطيع الانفراد بالسلطة والحصول عليها والهيمنة على الثروات، بدون أن يكون في الحاجة إلى التوافق والتعاقد، والطبقة البرجوازية تسعى دائما إلى الاغتناء والحفاظ على مكانتها الاجتماعية والاقتصادية، يكون سلاحهم في ذلك القمع والسيطرة على حقوق الطبقة الكادحة، لكن تصور ماركس للتاريخ يقول على أن هذا الظلم والوحشية التي تمارس على الطبقة البروليتارية لابد أنه سيصدر عنه حكم لا إنساني هو الإعدام للعالم الرأسمالي، لأنه من طبيعة البرجوازية ليست لها الرغبة في إقامة نظام اجتماعي عادل تختفي فيه الفوارق بين الأفراد وتزول فيه الطبقات، وينظر ماركس إلى المجتمع باعتباره وحدة عضوية كلية ومترابطة، ولا يمكن فهم أي جزء منها معزولا عن الأجزاء الأخرى، فالعلاقات التي تحكم المجتمع هي أساسا علاقة التكامل والتواصل والترابط، ولا مكان فيه لإصطدامات بين مكوناته، ومن خلال النص التالي يبين لنا ماركس كيف تحولت العلاقة بين الطبقة البروليتالرية والطبقة البرجوازية إلى علاقة صراع. “يستتبع التملك الخاص لوسائل الإنتاج تقسيم العمل، ولهذا التقسيم وجهه الإيجابي فيما أنه يحقق تقدما في جعل العمل اجتماعيا (بواسطة السوق) غير أن هذه القوة الإنتاجية تفلت من رقابةالناس وتنتجبدورها نتائجها الخاصة، إذ يستحوذ أصحاب الوظائف العليا على وسائل الإنتاج وتتيح ملكية هذه الوسائل للمالكين أن يتناقلوا وظائف القيادة التي تستبعد عنها غير المالكين، حينئذ تظهر الطبقات الاجتماعية، لم يكن تاريخ كل مجتمع إلى أيامنا هذه غير تاريخ صراع الطبقات”.
يحسم ماركس في أن التاريخ كله صراع بين الطبقات، والتاريخ دائما في طريقه نحو غاية محددة ومن بين مراحله مرحلة الصراع الطبقي، وخضوع الطبقة البروليتارية لظروف مجحفة، سيؤدي لا محالة إلى التفاوت الطبقي والاشتعال ضده، وبالتالي اندلاع الثورة، كما يفترض الرجل بأن التوزيع غير المتكافئ داخل المجتمع سيبقى على حاله من خلال الإكراه الإيديولوجي، حيث أن البرجوازية تفرض على البروليتارية الرضوخ للظروف العالم الرأسمالي، ونجد ماركس ينبه إلى أن البروليتارية ستثور على قوانين البرجوازية. “من خلال فهم جدل التاريخ الكلي المستقبل والماضي ويقدم الصراع الجدلي بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج المتوسعة باستثمار القانون الصارم الضروري للتاريخ، والذي نستطيع بواسطته التنبؤ بالمستقبل والتطور التاريخي التالي أمر حتمي، فسوف تصبح البروليتاريا دات توجهات ثورية وتقضي على العلاقات الرأسمالية للإنتاج، والقاعدة الاقتصادية للنظام الرأسمالي تماما مثلما قضت الطبقة الرأسمالية الناشئة على الأساس الاقتصادي للنظام الإقطاعي، وسوف تقوم البروليتاريا باستحداث طريقة شيوعية للإنتاج، وتستولي على السلطة السياسية،وتقيم ديكتاتورية البروليتارية كمرحلة انتقالية قبل قيام المجتمع غير الطبقي، وفي هذا العالم الشيوعي المستقبلي لن تكون هناك أي ملكية خاصة أو تقسيم للعمل أو صراع طبقي أو استغلال للبشر أو اغتراب في أي من المؤسسات الأسرية والأخلاقية والقانونية والحكومية ولن تكون هناك أي إيديولوجية”.
للصراع الطبقي إذن نهاية حينما تقوم الثورة بين من طرف البروليتارية على البرجوازية، حينما ترفض العيش داخل المجتمع الرأسمالي، الذي يعتمد على تقسيم العمل وفق قوانين غير عادلة وتهضم فيه الحقوق ويجمع فيه البرجوازي بين السلطة السياسية والهيمنة الاقتصادية،وهكذا يقف البروليتاري أمام طموحات البرجوازي رافضا استمرار استغلاله، وتؤدي هذه الثورة إلى إضمحلال الدولة لأنها كانت دائما بجانب البرجوازي وغير عادلة ودائما كانت تنحاز إلى طبقة على حساب أخرى ولم تراعي حقوق الأفراد داخل المجتمع، بينما مارس يتنبأ بدولة شيوعية التي ستحارب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وستمنع الاستحواذ عليها من طرف طبقة معينة، والأهم من هذا ستختفي الإيديولوجيا لأنها كانت تمثل أداة للسيطرة بواسطة نشر الأفكار التي تفرضها الطبقة الحاكمة، كما أن ماركس يتحدد عن مرحلة أساسية بعد قيام الثورة، وهي المرملة الانتقالية يسميها بالديكتاتورية البروليتارية، وجميع المجتمعات البشرية مرت من مراحل تحكمها جدلية التناقض الطبقي، بدءا بالمرحلة البدائية وبعدها المرحلة العبودية ثم مرحلة الإقطاع وبعدها الرأسمالية إلى أن تستقر في المجتمع الشيوعي الأقرب لتوفير إمكانية العيش بكرامة لجميع الأفراد، بحيث أن المجتمع الشيوعي هذا لا تتواجد فيه الطبقات، ويضمن الحرية باعتبارها أساس الشيوعية، وإلى حين الوصول إلى هذه المرحلة يقبع المجتمع أتناء المرحلة الانتقالية في ظل تغير العلاقات الاجتماعية وتزول التمايزات الطبقية نتيجة استغلال السلطة الثورية التي يتمتع بها البروليتاري، التي تمثل غالبية القوى الشعبية، وتحدث ماركس عن المرحلة الانتقالية بصفتها واحدة لجميع الشعوب لأنها هي المرحلة النهائية لعصر الثورة الاشتراكية العالمية.
يتبين إذن أن الدولة كمفهوم سياسي وفلسفي لم يتناوله كارل ماركس بذلك التقديس الذي تعامل نعه فلاسفة العقد الاجتماعي، بل أنه إذا كانوا هؤلاء قد أسسوا لقوانين الدولة وحذروا إلى أهميتها وضرورتها لضمان الحرية والحقوق للجميع باعتبارها المشترك الذي يتشارك فيه كل أفراد المجتمع، لكن كارل ماركس نجد أنه يحذر من الدولة باعتبارها حاملة للإيديولوجيا وغير بريئة، وأنها لا تخدم جميع مصالح أبناء الوطن الوحيد، بل أنها هي نتيجة للصراع داخل المجتمع بين طبقتين اثنتين البرجوازية والبروليتاريا، لكنها تخلت عن الواجب والمسؤولية التي تم تأسيسها من أجله وهو الحكم بين الطبقتين بما يرضيهم جميعا وفرض قوانين تخدم على الجميع، وبما أن الدولة انحازت للطبقة البرجوازية وساعدت على تكريس الرأسمالية فإن مصيرها سيكون هو الاضمحلال والزوال لكي يقوم مجتمع جديد ينبع من ثورة البروليتارية وهو المجتمع الشيوعي الضامن للحرية والمانع لاحتكار وسائل إنتاج الثروة، فكيف تسقط الدولة إذن؟.
اضمحلال الدولة
الشائع أن ماركس نظر إلى الدولة باعتبارها ليست سوى أداة للقمع والسيطرة وفرض الإيديولوجيا المهيمنة ضد الطبقة المسحوقة داخل المجتمع، ونجد كذلك انجلز يتكلم عن الدولة بأنها الجهاز القمعي تمتلكه طبقة ضد أخرى، وهي في أحسن الأحوال شر ترثه البروليتارية المنتصرة في الكفاح، من أجل السيطرة الطبقية، كما أنها ليست سوى منظمة مؤقتة تستخدم في النضال من أجل تحطيم الأعداء بالعنف، وأنه من التناقض القول بدولة شعبية حرة. وما دامت البروليتارية في حاجة إلى الدولة، فإنها لا تحتاج إليها من أجل الحرية وإنما لقمع أعدائها، وما أن يصبح بالإمكان التحدث عن الحرية حتى تزول الدولة بوصفها دولة. فالدولة عند ماركس ليست جوهر ما يمثل المجتمع وليست إلا أداة في يد الطبقة التي تمتلك السلطة والهيمنة، بل ذهب أبعد من ذلك عندما اعتبر الدولة هي النقيض الضروري للحرية، ولابد من مرحلة في التاريخ تسقط فيه الدولة في ظل الحاجة الملحة للطبقة الشعبية في التمتع بالحرية بكونها أساس الحياة العادلة. “حينئذ تبرز جماعة مشتركة يكون النمو الحر لكل واحد فيها هو شرطا لنمو الحر للجميع..فما أن تزول التناحرات بين الطبقات ..وبما أن الإنتاج كله يتركز في أيادي الأفراد المشاركين، عندئذ تفقد السلطة العامة طابعها السياسي، فالسلطة السياسية بالمعنى الصحيح هي السلطة المنظمة لطبقة من أجل اضطهاد الطبقات الأخرى.”
فالدولة إذن عند ماركس مرتبطة بالاضطهاد لكونها تمثل سلطة سياسية، وزوالها هو إيجابي وفي صالح المجتمع الشيوعي، الذي يخضع لمنطف السلطة العامة عوض السلطة ذات الطابع السياسي، ورغم هذا فإن ماركس لم يعطي تصوره للمجتمع الشيوعي بالشكل المطلوب،بحيث يسهل فهم نظريته حول الدولة، وفهم غاية الرجل من هذا المجتمع المستقبلي، غير أنه واضح القول بمجرد قيام النظام الاشتراكي تنحل الدولة من تلقاء ذاتها وتزول.لكن يصعب الحديث عن سقوط أي دولة ومن الصعب فهم أطروحة الرجل لأنها يختلسها شيء من الغموض، وسنستعين ببعض ما كتبه هيجل لمحاولة فهم مقصد كارل ماركس. ” وينتهي وجود الدولة كما هي الان في اليوم الذي يغدو فيه التكلم عن الحرية مستطاعا، لذلك فإننا نرى أن تحل محل كلمة دولة كلمة جماعة Gemeinwsen هي الكلمة الألمانية القديمة الرائعة التي تقابلها تماما كلمة كومونة الفرنسية…، إن الدولة دائما كما هي أداة اضطهاد وعنف هي التي يوعد بزوالها، والحاصل ما يثبت ذلك إنما هو التهكم الذي يوجهه انجلز إلى الوهم الفوضوي ل مجتمع بلا سلطة.”
نستخلص إذن أن نظرية الدولة عند كارل ماركس ارتبطت بمسألة الأداة، لأنها تخدم طبقة معينة وهي الطبقة الحاكمة من أجل فرض وضمان استقرار المجتمع الطبقي، وقهر الدولة للطبقة الفقيرة سيؤدي إلى الثورة على البرجوازية والرأسمالية، وبذلك ينتهي وجود الدولة التي ليست سوى إعادة إنتاج حرب الفرد ضد الجميع في المجتمع المدني، وهنا يظهر نقد كارل ماركس لهيجل، لأن الدولة لا يعول عليه في القضاء على المجتمع الطبقي ما دام أنها تقف دائما بجانب صاحب الهيمنة والسلطة، ولا سبيل للمجتمع غير الحرية التي ستقضي على الدولة، وحينها يظهر المجتمع الشيوعي الضامن للحرية بعد الثورة الشيوعية التي أطاحت بالبرجوازية الرأسمالية.
نقد ماركس للرأسمالية
معلوم أن النظام الرأسمالي يقوم على نمط الإنتاج، ويهدف إلى تكريس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمبادرة الفردية والمنافسة الحرة وتقسيم العمل وتخصيص الموارد عبر ألية السوق دون الحاجة إلى تدخل مركزي من الدولة. فكيف انتقد ماركس هذا النمط من الإنتاج؟.
اعتبر كارل ماركس بأن الطريقة الرأسمالية للإنتاج هي التي تكون في ملكية عدد قليل من الأفراد يتحكمون في القوى والوسائل الرئيسية للإنتاج باعتبارها ملكية خاصة لهم، وبذلك يستغلون العمال الذين لا يملكون أي شيء سوى قدرتهم على العمل ولا يملكون ما يبيعون. و ماركس تكلم عن مجموعة من المفاهيم التي ظلت مرتبطة بالرأسمالية مثل قيمة العمل وفائض الإنتاج والاستغلال، فحسب ماركس فإن القيمة التي يتلقاها العامل من السلع التي ينتجها جد بخسة، وليست عادلة واعتبر أن الفرق بين ما يدفعه الرأسمالي للعامل كأجر والثمن الذي يستطيع الرأسمالي الحصول عليه من بيع منتوجات العامل، هو ما يسمى بالربح الرأسمالي وهو فائض القيمة، من هنا تكلم ماركس عن نظرية الاستغلال الرأسمالي, “فالطبقة العاملة تكون مجبرة على بيع قدرتها على العمل في السوق نظير المعدل السائد للأجور، ويستغل الرأسمالي العامل ببيع السلع التي ينتجها العامل مقابل مبلغ من المال يزيد على ما يدفعه للعامل كأجر..،حيث يجني الرأسمالي الأرباح بأن يدفعوا للعمال المعدل السائد للأجور فحسب بدلا من القيمة السوقية الكاملة للمنتجات التي ينتجها العمال”.
فالرأسمالية نظام أساسه استغلال العامل وليس نظام قائم على الموازنة بين الإنتاج وتكاليف العمل والأجر الذي يأخذه العامل البروليتاري، بالإضافة إلى أن الرأسماليون يدخلون في منافسة مع بعضهم البعض من أجل بيع سلعهم، واستثمار رؤوس الأموال لزيادة الإنتاج، ومع تطور الألات الصناعية والمنافسة الشرسة، يزيد من الإنتاج الذي سيؤدي إلى الفائض ويفقد الرأسمالي بعض الأرباح، ما يجعله يفكر إلى اتخاذ بعض الإجراءات إما بنقص من أجور العمال أو بخفض وثيرة الإنتاج وبذلك يتم تسريح العمال، وهذا ما سيؤدي بالطبقة الفقيرة إلى تفاقم البطالة وانتشار البؤس، ومع تفاقم هذه الأوضاع، لا محالة ستتجه الطبقة العاملة إلى الانتقام من الرأسمالي من خلال الثورة، نتيجة التعارض الحاصل بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. “ويعتقد ماركس بأن الطبقة الرأسمالية سوف يتقلص حجمها مع تزايد المنافسة الرأسمالية، ونجاح الرأسماليين في البيع بأسعار أقل من غيرهم، وشراء حصتهم كاملة أو إخراجهم من عالم التجارة. ولكن في الوقت الذي يتناقص فيه حجم الطبقة الرأسمالية، تتزايد أعدد الطبقة العاملة سريعا نظرا لذوبان طبقات بأكملها في البروليتاريا: أصحاب المتاجر، والصناع المهرة، والفلاحين. وهذه الطبقات أخذة في الاختفاء، يقول ماركس، لعدم قدرة هؤلاء المنتجين الصغار على منافسة رأس المال، والإنتاج على نطاق واسع، والمشروعات التجارية الرأسمالية التي تدخل كل مجال من مجالات الإنتاج وتبيع منتجاتها بأسعار أقل من قيمة السلعة. ولم تقتصر الاثار المدمرة لمنافسة الرأسمالية على صغار البقالين وتجار التجزئة، والحرفين، وسحقهم وتحويلهم إلى قوة تابعة للبروليتاريا. بل امتدت أيضا إلى صغار الفلاحين الذين لا يقدرون على شراء الالات اللازمة للإنتاج الزراعي الذي يتيح لهم منافسة الزراعة الرأسمالية. وبذلك يصبح المجتمع مكونا من طبقتين رئيسيتين في النظام الرأسمالي: إحداهما تزداد ثراء بينما تزداد الأخرى فقرا. وتحت وطأة الأزمات المتكررة والبطالة والفقر والجوع، سوف تدرك طبقة البروليتاريا المتوسعة حقيقة موقفها، وتقوم بالثورة – وتفرض سيطرتها على الدولة، وتنتزع الملكية، وتتحكم في قوى الإنتاج”.
يتبنى ماركس إذن الرأسمالية من خلال منظور دينامي صراعي للرأسمالية من خلال نظرية الاستغلال وفائض القيمة، حيث يصبح العالم الرأسمالي مكتظ بالسلع التي ينتجها البروليتاري العامل الذي يتعرض للاستغلال وهضم حقوقه، فهو يأخذ أجر جد قليل بالمقارنة مع الإنتاج الذي ينتجه، وهذا هو منبع الرأسمالية أي ذالك الفارق القيمي بين قوة العمل والعمل المنتج الذي يشكل فائض القيمة. وهذا هو سبب نقد ماركس للرأسمالية.أما بخصوص الدولة فما هي إلا أداة لحماية الطبقة المهيمنة ونشر والحفاظ على إيديوجياتها.