تضم مقدمة كتاب”نظرية الدولة” لصاحبه “نيكولا بولانتزس” ثلاثة أجزاء لكل جزء عنوان مستقل، الأول وضع بعنوان “مشكلة نظرية الدولة”والثاني “الأجهزة الإيديولوجيا”والثالث معنون ب”روابط وصراعات السلطة”،وما يتبين لنا من الوهلة الأولى كل مفاهيم هذه الأجزاء مرتبطة مع قضية الدولة بحيث هي المحور الأساس الذي يتناوله الكتاب.
يناقش الجزء الأول من المقدمة ” مشكلة نظرة الدولة” العلاقة بين الدولة والسلطة من جهة والدولة والاقتصاد من جهة الأخرى، ومنذ البداية يقر “بولانتزاس” بأن جميع النظريات السياسية منذ فيبر إما تمثل حوارا مع الماركسية أو هجوما عليها، لذلك ينتقد التصور الأدواتي للدولة الذي يعتبر كل دولة هي ديكتاتورية دولة، وأنها تفتقر للطابع الطبقي، فالدولة عند الرجل ما هي إلا تعبير عن إرادة الطبقة السائدة أو كما يسميها بإرادة السياسيين المأجورين، هنا يشير إلى تصور الماركسية للبنية الاقتصادية التي لا وجود فيها للصراعات والطبقات ما مهد لظهور الدولة الخاصة ذات الوظائف الاجتماعية ودولة ما فوق الدولة وهي دولة الطبقات بالتعبير الصريح للماركسية، دولة البورجوازية والسلطة السياسية، وحاول “بولانتزاس” محاورة الماركسية بالنظريات المنفصلة عن الدولة، ويفصل بين الدولة باعتبارها قوام مادي وبين أجهزة الدولة التي هي مصدر القلق والخوف المستمر. هم الكاتب هنا هو البحث عن أساس البناء المادي للدولة والسلطة في علاقات الإنتاج وفي التقسيم الاجتماعي للعمل، وإقامة رابطة بين الدولة وبين الطبقات وصراعاتها. وأشار إلى بعض كتبه التي اهتمت بهذه النقطة أي رابطة الدولة مع العلاقات الاجتماعية وقدم تلخيص لأهم الأفكار التي ناقشها ضمنها، باعتبار أنها مساهمة في فهم هدف الرجل من هذا الكتاب الجديد وكذلك لتوضيح أفكاره أكثر.
يسعى جاهدا تصحيح التفسير القديم حول الروابط بين الدولة والاقتصاد، الذي يلخص الدولة كأنها مجرد تابع وانعكاس لما هو اقتصادي وهذا فهم خاطئ لمنهج الماركسية الذي يقول بسلطة الدولة إلى جانب السلطة الاقتصادية والاجتماعية، فجوهر الاختلاف هنا يكمن داخل مسألة البنى الفوقية، وهذا التصور يصل بالضرورة إلى نتائج مغلوطة لأنه ينطلق من مقدمات خاطئة، فالاقتصاد لا يمكن تقديمه كمفتاح لتفسير البنى الفوقية بوصفها انعكاسات ميكانيكية للقاعدة الاقتصادية، كما لا يمكن اعتبار المجال السياسي ومجال الدولة الوحيد لتحديد البنية الفوقية، فصحيح دور الدولة ظل دائما موجود في الاقتصاد والإنتاج ويكون هدف هذا التدخل إما للتوغل والسيطرة على الاقتصاد أو تعمل على توجيهه من الخارج، الأهم هو حضورها مؤكد وضروري في علاقات الإنتاج وإعادة الإنتاج. ومن خلال بعض هذه الأفكار تبين لنا ميول ودفاع “نيكولاس بولانتزاس” على الماركسية ويحاول تصحيح بعض العثرات التي وقعت فيها أو سوء الفهم الذي حصل عند بعض منتقديها.
إن الفصل بيد الدولة والاقتصاد هو جزء مهم والنواة الصلبة لعلاقات الإنتاج، أي العلاقة بين الرأسمالية والدولة من خلال علاقات الإنتاج والعمل، ويشترط لكي تتواجد نظرية عامة في الاقتصاد أو في السياسة ضرورة تواجد دولة تمثل كهيئة مستقلة ذاتيا بطبيعتها وذات حدود ثابتة، ومن الصعب وجود نظرية عامة للدولة إن لم نقول مستحيلة، وما يحتسب للماركسية هو أنها استطاعت تجاوز الميتافيزيقية السياسية ذات مفاهيم عامة ومجردة، بحيث يتصور الدولة كقدر لا دخل للإنسان في تحديد بنياتها وما على الإنسان سوى الرضوخ تحت إمرة هذه الدولة الميتافيزيقية التي تدعي اكتساب شرعيتها من السماء. والدولة الرأسمالية من الصعب امتلاكها للنظرية العلمية ما لم تحط بإعادة الإنتاج التاريخي والتحولات الاجتماعية ومجالات الصراع الطبقي المتخيلة في أشكال الدولة حسب مراحل وأطوار الرأسمالية، أي أن ترتبط بتاريخ تأسيسها وإعادة إنتاجها (الصراعات السياسية في الرأسمالية). كما يشير إلى رابطة الدولة مع علاقات الإنتاج أي الرابطة بين الطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي، وأن سيرورة الإنتاج تقوم على وحدة و سيرورة العمل وعلاقات الإنتاج وهذا يخالف النزعة التقليدية الاقتصادية، كما تحضر الايديولوجيا ضمن علاقات الإنتاج من خلال روابط سلطوية للطبقات وهذا ما يؤثر في تكوينها، وبحضور الإيديولوجيا في تكوين علاقات الإنتاج وإعادة إنتاجها تتم إعادة إنتاج روابط السيطرة والخضوع السياسي والإيديولوجي، وهكذا تحضر الدولة في أنماط الإنتاج كتجسيد مادي للروابط السياسية والإيديولوجيا في علاقات الإنتاج.
في الجزء الثاني من المقدمة الذي وضعه تحت عنوان “الأجهزة الإيديولوجية للدولة”، يتناول الكاتب إشكالية الدولة وأجهزتها التي تعمل على فرض منطق الدولة وضمان استمرارية نهجها، هنا يتحدد دور الدولة إلى جانب القمع و الايديولوجيا،ويتخذ هذا الدور أشكال مختلفة ومتنوعة قد تكون مادية أو رمزية، الأساس هو أنها تمارس نوع من القهر والسلطوية هذه الممارسات قدتكون عن طريق التقاليد والأعراف والعادات وأسلوب الحياة، بواسطة هذا تعمل الدولة على إنتاج وصياغة الإيديولوجيا، ومن أبرز العنف الذي تمارسه الدولة نجدالعنف الجسدي باعتبار أن الجسد مؤسسة سياسية ينظم العلاقة المقيدة بين الدولة والسلطة بالجسد الذي يصبح أداة من خلال مؤسسات تمثل الإكراه الجسدي والتهديد بالتشويه، ومن الطبيعي أن تعمل الدولة على إنتاج خطاب يتناسب مع أهدافها ونواياها وحفاظا عن مصالح الطبقة السائدة التي تمتلك الية السيطرة والضغط، تكون لخطاب الدولة هوية ذات بعد بيروقراطي سلطوي، بمعنى لا يتدخل جميع أفراد المجتمع وكل أطياف طبقاته في بناء هذا الخطاب وإنما هو خاص بالخاصة أو يخدم مصالح طبقة لها سلطة مادية دون أن تستفيد منه الطبقات الأخرى التي تفتقد لعنصر السلطة والتحكم. وطبيعي أن الدولة عندما تقوم بصياغة استراتيجياتها لصالح هذه الأقليات المهيمنة لا تقوم بذلك علانية بل من وراء حجاب أولا حفاظا على مصالحها ولجنب كشف أهدافها وحقيقتها من الطبقات المقهورة، ما قد يتسبب في ضعفها أو حتى الثورة عليها ورفض الخضوع لقوانينها، فالدولة تمارس نوع من الدهاء السياسي الذي يغطي نواياها الحقيقية، ولكي تبقى طبقة محددة مسيطرة على الدولة والاقتصاد بشكل خاص وتفرض إيديولوجياتها السرية.
ويحدد “بولانتزاس” للدولة جهازين اثنين تقوموا عليهما جهاز قمعي واخر إيديولوجي، ويتساءل عن موقع الاقتصاد من الدولة، فإذا كان الجهاز القمعي يعمل بواسطة القمع والإيديولوجي بواسطة الايديولوجيا حسب أشكال الدولة والنظام ومراحل إعادة الإنتاج الرأسمالي، فكيف يتحدد دور الاقتصاد إذن؟ هذا السؤال سيجيب عنه الرجل في المقطع الثالث من المقدمة.
يستهل “نيكولا بولانتزاس” في الجزء الثالث(روابط وصراعات السلطة) من مقدمة كتاب “نظرية الدولة” البدعة التي ابتدعها بعض نقاد الماركسية وفحواها أن الماركسية لا تعطي الإهتمام الكافي لدور السلطة السياسية وتنكب على دراسة الاقتصاد والصراع الطبقي باعتباره هو المحدد الأساس لأيديولوجية الدولة، فصحيح أن الاقتصاد هو مكون مهم وضروري لازدهار وتقدم الدولة وتطورها وضمان إستمراريتها، لكن من الضروري أن نتساءل عن منظم الاقتصاد ومحدد إيديولوجياته الذي هو بلا شك هو السلطة السياسية، فها فعلا تغيب الماركسية عنصر السلطة السياسية في نظريتها المتعلقة ببناء الدولة؟، يجيبنا “نيكولا بولانتزاس” بأن العلاقة بين السيرورة الاقتصادية وعلاقات الإنتاج باتت تمثل صلاحيات سلطوية تبين لنا أن الاقتصاد مرتبط بالسلطة السياسية و بالإيديولوجيا للدولة التي تضفي المشروعية عليها، وتجعل من الاقتصاد ذات طبيعة سلطوية خاصة وداخلية، وتمارس عنفها وسيطرتها وتفرض إيديولوجياتها، وينتقد دولوز وفوكو الذين اتهموا الماركسية بتلخيصها للسلطة داخل إطار الدولة، بينما الماركسية حقيقة تجعل من علاقة السلطة تتجاوز الدولة لتصبح منتشرة في كل أجزاء ومكونات الدولة، وتظهر هذه العلاقة جليا بين الطبقية والدولة من خلال تدخل الدولة في المجالات التي تقدم الخدمات العمومية كالصحة والتعليم والنقل…، ودور الدولة رغم وجود العلاقات السلطوية داخل المجالات ليس بالدور الثانوي وإنما الدولة هي التي تلعب دورا تكوينيا في العلاقات بين الطبقات السلطوية، بل يذهب الكاتب إلى القول بأن الإمتداد الغير المحدود للدولة تكون نتائجه سلبية عندما تكون مجرد تابع للطبقة العاملة، فداخل الدولة إذن يوجد تقسيم طبقي خاضع لصراع كما أن الدولة تمثل السلطة السياسية ذات الطابع المؤسساتي وهي بالضرورة سابقة عن الصراع الطبقي الذي يفترض وجود دولة قبلية ينشأ فيها هذا الصراع تلقائيا، كما أنها هي محدد الصراع ومنظمة لعلاقات الإنتاج والسوق.
فالدولة طبيعي أنها تعمل على تكريس السيطرة السياسية والاقتصادية السائدة أو المهيمنة وبلغة ماركس التي تمتلك وسائل الإنتاج، وهذا الصراع لم يكن داخل المجتمعات البدائية لأنها ليست بها طبقات ولم تكون لها دولة، فالدولة هي الأساس والأصل، والانقسام الطبقي هو المجال الوحيد لتكوين السلطة، والدولة تتداخل في كل روابط السلطة لتحدد قيمتها داخل الروابط الطبقية لتطويرها لصالح ايديولوجيا الطبقة المسيطرة.
كما يشير إلى مفاهيم أساسية في الماركسية مثل السلطة الطبقية وكل الطبقات الاجتماعية التي يحركها الصراع الطبقي، بالإضافة إلى الاهتمام بالدور الفعال للسلطة السياسية و تجسيد السلطة في الدولة باعتبارها مركز ممارسة السلطة السياسية، وهذا ما عمل فوكو ودولوز بنقده في الماركسية ويعتبر “بولانتزاس” بأن هذا النقد ناتج من ممارسة كل من فوكوو دولوز لتقليد سوسيولوجيا وسياسي أنكلوياكسوني الذي تركز تحليلاته باستمرار على الدولة الحقوقية وهذا جهل خيم على جل مثقفي فرنسا مرتبط بالأساس بالنزعة الإقليمية للمثقفين الفرنسيين.
*حسن سمر: أستاذ باحث في الفلسفة السياسية