من إشكاليات الفكر العربي احتلال قضية الأصالة والمعاصرة موقع الريادة على الدوام. وقد طرح محمد عابد الجابري هذه الإشكالية في كتابه “إشكاليات الفكر العربي المعاصر”، حيث تساءل عن المحرك الذي يغذي مسألة الأصالة والمعاصرة هل هو مشكل الصراع الطبقي ام أنه مشكل ثقافي ،ويؤكد صاحبنا أن هذه الإشكالية موضوع هذا المقال حضرت دائما في الفكر العربي الحديث والمعاصر باعتبارها إشكالية نظرية لا تميل أبدا إلى حياة الواقع. حيث أن إشكالية الأصالة والمعاصرة وضعت الإنسان العربي أمام اختيار بين نموذجين اثنين إما النموذج الغربي أم النموذج التراثي. ومن هنا انقسمت المواقف حول هذه القضية إلى ثلاث مواقف مختلفة ومتضاربة أحيانا وأحيانا يصل فيها التضارب إلى مستوى العنف والنبذ. موقف أول يتبنى النموذج الغربي المعاصر ويعتبره المنفذ إلى الأنوار وهذا الموقف يتبناه العصرانيون من العرب. بينما هناك موقف آخر مخالف للأول يرى ضرورة استعادة النموذج العربي الإسلامي كما كان قبل الإنحراف وهو الموقف السلفي. وبين هذين الرأيين ينبع موقف ثالث انتقائي يدعوا إلى الأخذ من كلا الاتجاهين (العصراني والسلفي) كل ما يفيد الواقع العربي. فهو يعمل عملية انتقاء للفكر. وكما يقول الجابري فالنموذج الغربي فرض على العرب فرضا لسبب وهوطبيعة التنظيم العقلاني لشؤون الاقتصاد وأجهزة الدولة وكدا في العلم والصناعة والسياسة…، ولا يمكننا التعامل مع هذا النموذج بالازدواجية أو بتعبير المثل المغربي القائل “يخ منو، وعيني فيه” فإما الاعتراف بقيمة الآخر والتواضع أمامه للاستفادة من الخبرة التي راكمها عبر التاريخ وإما الاعتماد على الذات وبذلك يصعب اللحاق بالركب العالمي. لأن العقل يتطور بطريقة تراكمية وهذا حكمه علينا وليس بوسعنا غير الانبطاح لحكمه هذا.
إن منبع مسألة الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث يعود إلى القرن العشرين في إطار السؤال النهضوي المحوري في الفكر العربي الحديث “لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ كيف ننهض؟. والجابري يعتبر هذا السؤال سؤالا ذات طابع أيديولوجي كما أنه رغبة بالإدلاء بالجواب أكثر منه بحث عن الجواب الذي سيشفي غليل سائله. فالسائل هنا يسائل نفسه أولا،ويعرف الجواب مسبقا لكن يعيد هذا التساؤل لينتقل به إلى مستوى السؤال الفلسفي الذي ليس هدفه هو الجواب بقدر ما يهدف إلى إحداث ضجة فكرية تقيس أعماق الإنسان. و بداية انطلاق النهضة العربية الأولى كانت بواسطة الإسلام وتحت رايته بعد فتح مكة حسب صاحب “تكوين العقل العربي”.وعلاقة النهضة بالتراث يؤكد الجابري أن أي تقدم نهضوي يجب أن ينتظم في تراثه الخاص، هذا الانتظام معناه نقد التراث وتفكيكه من أجل خلق التجاوز النهضوي، فسبب فشل النهضة العربية الحديثة هو عدم فهمها لواقعها وتراثها. بينما نجحت أوربا في إحداث قفزة في جميع المجالات وتحققت النهضة عندهم، لأن أوروبا انتقلت من تراثها بالنقد والفحص، وأوروبا المدينة تأسست أساسا نتيجة حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني.
إن إشكالية الأصالة والمعاصرة تعني في أذهاننا وجود نوع من التوتر والقلق والالتباس في العلاقة بين الماضي والمستقبل، بين التراث والفكر المعاصر بين الأنا والآخر…ويرى الجابري أن النهضة العربية لها العديد من التعقيدات التي تقف عقبة أمام أي تقدم. أولها هو دخول الآخر الغربي إلى حلبة الصراع ،ومعنى هذا أن التصادع لم يكن أبدا بين عنصرين اثنين وفقط هم المجددون و السلفيون،بل دخل الغرب كطرف آخر في الصراع. ثانيا انقسام القوى النهضوية إلى فريق يمجد الغرب ويعتبره السبيل لمواجهة الخصم. وفريق آخر يعتبره العدو الذي يجب الحيطة والحذر منه. بالإضافة إلى خصوصية وطبيعة التركيب الاجتماعي بالوطن العربي والمشرق خاصة. ثم أخيرا وليس أخيرا، انقسام الوطن العربي إلى أقطار منفصلة وبذلك قيام نوع الحزازات على صعيد الوعي والفكر كما على صعيد الأيديولوجي والعمل السياسي.
كما طرح الجابري قضية الإبداع في الفكر العربي المعاصر وتساءل عن غيابه هل هو راجع إلى واقع الثقافة التي تهيمن على المجتمع العربي أم أن المشكل راجع إلى أزمة عقل.
في هذا الصدد يؤكد الرجل أن كل المفاهيم المعتمدة في الخطاب العربي الحديث والمعاصر كلها مشتقة إما من الماضي أو من الحاضر الأوروبي، فهي لا تدل أبدا عن رهان الواقع العربي المعاصر.
بالنسبة الثقافة العربية على مر التاريخ شهدت ثلاث نظم معرفية متمايزة ومتصادمة حسب تقدير الجابري، أولها النظام المعرفي البياني وهو الذي ساد في عهد النبي والخلفاء والراشدين إلى حدود الدولة الأموية وكان هو المهيمن على العقل المعرفي لهذه المرحلة حيث كان يؤسس رؤية للعالم تقوم على أساس الانفصال واللاسببية أو ما يعرف بقياس الفرع عن الأصل. والثاني هو النظام المعرفي العرفاني يستمد مشروعيته من الفلسفة الإسماعيلية والفيضية… أساسه العرفان أي الاتصال الروحاني المباشر بالموضوع والاندماج معه. بينما النظام الأخير هو البرهاني وهو نظام معرفي يؤسس قضاياه على فلسفة أرسطو ويكرس مبدأ العلية حيت يقوم على الانتقال من مقدمات يضعها العقل ويصل إلى نتائج تلزم عنها منطقيا.إذن هذه هي النظم التي يسترسلها الجابري ويعتبرها هي كل ما هيمن على طول مراحل الفكر العربي المعاصر. والجدير بالذكر أن هذه النظم لم تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا إيجابيا أبدا ولم تحاور إحدى هذه النظم أختها. بل دائما ما كان الصراع والتمايز هو ما يطبع العلاقة بينها. ويميز الجابري تاريخ الفكر العربي عن الفكر الغربي بقوله إن لدينا نحن العرب لم يكن العلم طرفا في الصراع بل أطرافه تمثلت في السياسة والدين.فهو صراع بقول الجابري يكتسي ممارسة السياسة في الدين والدين في السياسة. فأزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر هي أزمة بنيوية، أزمة عقل قوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية…. وقبل ذلك وبعد هي أزمة ثقافة ارتبطت منذ تشكلها بالسياسة. فحضرت السياسة فيه كعنصره المحرك حسب الرجل.
إن اي مستقبل للفكر العربي إذا ما أراد أن يتقدم عليه أن يستوعب أولا ثلاث حقائق هي بمثابة البوصلة التي على الفكر أن يتبعها كمنهج أولى لتحقيق التقدم والنهضة.أول حقيقة عرضها الجابري هي ضرورة الإيمان بأن الدولة القطرية أصبحت حقيقة لا يمكن القفز عليها بسبب البنى الاجتماعية والنفسية التي أنشأتها اوكرستها في جسم مجتمع ما. والحقيقة الثانية هي التسليم بأن الوحدة هي الشرط الوحيد للتقدم والتنمية كما أنها المتنفس الوحيد للدولة القطرية العربية المختنقة.والثالثة هي أن الثقافة العربية لها مقومات لا تفسد ولا تتلاشى كاللغة والدين والتراث والتاريخ والمصير الواحد.
إن الجابري في كتابه المعنون ب “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” يحاول فيه فحص مشكلة الفكر العربي وأسباب انهياره، وذلك بغية تقديم خطة علاج له إذا ما أراد أن يزدهر ويتقدم وأن يلتحق بالركب الدول الصناعية والأمم الراقية القادرة على الحفاظ على كيانها والمساهمة في تقدم الحضارة البشرية ماديا ومعنويا، ويقر بأن الوحدة هي السبيل الوحيد لتحقيق توازن نفسي واجتماعي وتخفيف درجة التوتر عندهم على صعيد الفكر والوجدان والاجتماعي. لكن هل ما قاله الجابري الذي فارقنا قبل أزيد من عشر سنوات قد استوعبه الإنسان العربي أم الهم مازال كما تركه المرحوم هذا أن لم يكون قد زاد سوءا ؟.