للتذكير فقط وليس للتعريف، “النمذجة” (modélisation) هي إستعراض المستويات و الزوايا و المقاربات بهدف رصد و ملامسة وتوضيح كل الجوانب المتعلقة بنموذج معين. و إستحضار هذا المفهوم الحديث العهد بعلاقته مع التنمية، سؤال راود البشرية منذ القدم في مسارها الطويل و بحثها الحثيث عن نموذج تنموي ناجع، حسب تمثلها للعالم و الرفاه عبر العصور.
ربما إختلفت التسميات، ولكن الجوهر حافظ على نفس التطلع، و نفس الطموح حيث ظل حلم التنمية يراود الإنسان منذ كان.
في كتابه “الجمهورية”، حاول الفيلسوف اليوناني أفلاطون، أن يقدم أولى إرهاصات العمل الفكري لنموذج تنموي مثالي، إختزله في “جمهوريته الفاضلة” حيث الدولة تشبه أبناءها، فلا طموح لترقية الدولة إلا بترقية أبناءها. من خلال ما أسماه الدولة العادلة، و تثبيت القانون بُغْيَةَ معالجة الجوانب الإجتماعية و الإقتصادية و التربوية و الدينية.
تم جاء بعده الفيلسوف العربي أبو نصر الفارابي، في تجلي واضح لتأثره بفكر الفلاسفة اليونان، ليبسط منظوره من خلال مُؤَلَفَيْهِ “أهل المدينة الفاضلة” و”تحصيل السعادة”. حيث يرى الفيلسوف المسلم قِوَامُ المدينة الفاضلة في حاجة الإنسان إلى التعاون و التكامل. و إعتبر السعادة نهاية الكمال الإنساني، و إشترط المعرفة و العمل لتحقيقها و ذلك بسلك أنجع الاختيارات في كل مناحي الحياة.
و كما الديانات السماوية بشرت معتنقيها الصالحين بالجنة، فقد حاول الانسان تمثل عالم الفردوس في الأرض. و لعل أول محاولة لتقريب هذا العالم للأذهان، تحسب للكاتب البريطاني Thomas More, “يوتوبيا” (Utopia) و هي عبارة عن جزيرة من “أفضل الجمهوريات” تُحِيلُ على مجال مثالي و حياة مثالية. و مؤلف “يوتوبيا” لا يخلو بدوره من تأثير التوصيفات المثالية و الخرافية للمفكرين و الفلاسفة اليونان من خلال تصوير مجال نموذجي للعيش، كما جاء في ملحمة “الأوديسة” لهوميروس من خلال وصفه لحدائق الألكينوس ذات الثمار الأبدية و حدائق كاليبسو ذات الجمال الفردوسي، و “الجزيرة السعيدة” (Îles des bienheureux) للشاعر الإغريقي بندار.
كلها صور و مشاهد ساقتها قامات الفكر الإنساني، و هي تعكس صراعا فكريا و تطلعا لواقع نموذجي، قوامه الرفاه. لكنه، وفي نفس الوقت، إقرار ضمني بإستحالة هذا النموذج. فاليوتوبيا، لغة، ترمز الى مكان لا وجود له (اللامكان)، إنها حضور غائب و حقيقة باطلة.
و مع صيرورة التطور العلمي و التقدم الصناعي، بُعِثَتُ الآمال من جديد حول إمكانية تحقيق نموذج تنموي “طوباوي” (utopique) كما بشر به الرعيل الأول من الفلاسفة و المفكرين. لكن كابوس الحروب و الأوبئة، وتسلط الأنظمة الإستبدادية، سرعان ما سيبدد هته الآمال.
وهو ما سيفسح المجال لظهور جنس أدبي آخر إستبدل العالم المثالي “يوتوبيا” بنقيض له “ديستوبيا” أي العالم اللامثالي.
كانت فاتحة هذا الصنف الأدبي هو مؤلف الكاتب الإرلندي Jonathan Swift من خلال روايته الشهيرة “رحلات غوليفر” (Gulliver’s Travels). صادف غوليفر أثناء رحلاته مجتمعات خيالية تُبْهِرُ العين في مظهرها، لكن سرعان ما تنكشف نواقصها و مواطن ضعفها. و لعل أبرز هذه المجتمعات، جزيرة Laputa الطائرة في السماء، و التي ركز مصمموها على أشكالها الهندسية المثيرة، و الغير مفيدة، لكنهم، بالمقابل، أغفلوا الحاجيات الملحة و الأساسية للبشر القابعين في الأسفل فوق الأرض.
عند بداية الألفية الثانية، و مع تسخير التكنولوجيا في المصانع و سلاسل الإنتاج، إِشْرَأَبَتُ رؤوس الطبقة العاملة متطلعة نحو نموذج أفضل. لكن سرعان ما وجدت نفسها سجينة المصانع و حبيسة دور الصفيح بفعل هيمنة أرباب المصانع و الطبقة الرأسمالية المتحكمة في مصير فئات الأُجَرَاءُ و الشغيلة المدحورة.
وهو الوضع الذي صوره مجموعة من رجال الفكر آنذاك عبر العديد من الإبداعات التي لا تزال رائدة إلى اليوم. كالكاتب الإنجليزي H.G. Wells في كتابه “آلة الزمن” (The Time Machine) و هو طريقة ساخرة ترى مستقبل البشرية مظلما من خلال المسافة الطبقية بين الأغنياء و الفقراء. و الروائي الإنجليزي Aldous Huxley من خلال مؤلفه الرائع “العالم الطريف” (Brave New World). وهو رواية مميزة تتعرض إلى ( كُلْفَةُ أسعادة الباهضة ) وتقدم صورة لعالم مثالي، الكل يَنْعَمُ فيه بالرفاه و السعادة، لكن على حساب غياب العنصر الإنساني. فهو عالم لا يعرف فيه الناس الشقاء. “فكيف لهم أن يشعروا بالسعادة، و ليس لهم أدنى معرفة بالتعاسة؟” كما جاء في ثورة “جون المتوحش”، أحد شخصيات الرواية، الذي رفض العيش في عالم Huxley “المثالي”.
بعد الحرب العالمية الأولى، تمكنت حركات تحررية و ثورية من الوصول إلى سدة الحكم. أعلنت نفسها بديلا، و قطعت عهودا بالقضاء على كل التمايزات الإجتماعية. لكن، و كأن التاريخ يعيد نفسه، و جدت الطبقة الكادحة نفسها حبيسة أنظمة طوطاليطارية أحكمت قبضتها على الجماهير التي ناضلت من أجلها و من أجل التغيير، و من أجل تمكينها من السلطة. لتعصف بأحلامها، وآمالها و تطلعات جيل كامل آمن بالتغيير.
ومرة أخرى يَبْرُزُ جيل آخر من المفكرين عبروا عن خيبة آمال الشعوب، و جسدوا هذه الخيبة في مؤلفاتهم. أبرزهم الكاتب الروسي Eugéne Zamiatine في كتابه “نحن” (We). و هو ديستوبيا جديدة عَبًرَ من خلالها الكاتب عن خيبة أمله من ثمار ثورة أكتوبر (الثورة البلشفية لسنة 1917) التي شارك فيها Zamiatine و حمل أحلامها، ليواجه بعدها الرقابة على أفكاره، و مصادرة مؤلفاته.
ورغم منع مُؤَلَفُ “نحن” في الإتحاد السوفياتي سابقا، فإن هذا لم يمنع رجال فكر آخرين, و في بلدان أخرى, من إستحضار مرامي أفكار الكاتب الروسي. و هذا ما يتضح جليا في إبداعات الروائي البريطاني George Orwell “مزرعة الحيوان” (Animal Farm) و هو مؤلف ساخر من النظام السوفياتي آنذاك، و رفض قاطع للفكرة الشيوعية و المَدُ الراديكالي المهيمن. ليعود في روايته الشهيرة بعنوان “1984” و يحذر من غياب العدالة الإجتماعية، و فظاعة الأنظمة الشمولية.
هي رحلة عبر تاريخ الإنسانية، و جرد لأهم محطات صراع الفكر من أجل الرفاه و العيش الكريم. إنه السعي الدائم نحو الأفضل، نحو نموذج تنموي يتسع للجميع. فمنذ أفلاطون و إلى حدود اليوم، لا زال نفس السؤال، و نفس التدافع حول النموذج الأنجع. ربما اختلفت الكلمات و إختلفت الرءى و التصورات، لكن دون إختلاف ماهية السؤال.
صارع الإنسان الزمن و الزمان، و خاض معارك من أجل البقاء، وأثبت أنه الأصلح، و أحدث ثورات إكتشف أنها لم تكن دائما منتصرة لوجوده: حارب المجاعة و الأوبئة و الظلم و الإستبداد. و كأنه في حرب أبدية تدفعه كل مرة للإكتشاف، و إذا تعذر، خلق عدو جديد. واليوم “يحارب” المناخ، ليجد نفسه أمام عدو أخضعه و نال منه: إنه الوباء.
و بناء عليه، فأي نموذج تنموي ناجع اليوم؟ نموذج جديد؟ أم متجدد؟ علقت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي مشاوراتها المباشرة و أطلقت منصتها الرقمية التشاركية. و الواقع إن أكبر و أهم محاور للجنة اليوم هو الوباء. وجب على اللجنة الإنصات له و مباشرة عملها إستنادا على معطياته. فهو يفرض على اللجنة عقلية ما بعده. أي إعادة ترتيب الأولويات: الصحة و التعليم و الإقتصاد التضامني للتخفيف من الأضرار الإجتماعية التي تستفحل في ظل الأزمات، و لجان اليقظة ذات الصلة بها. فالآجال ثانوية، مقارنة مع دسم المضمون.
إنها حكاية الرجل الذي نجى من الغرق بعد أن تقاذفته الأمواج، ليجد نفسه وحيدا في جزيرة مهجورة، يستأنس بوحدته و يبني له كوخا ليستظل من أشعة الشمس. وذات يوم إحترق كوخه بالنار الذي كان يطهو بها طعامه. فظل يبكي و يندب حظه حتى نال منه النوم جائعا حزينا. و في الصباح يستيقض على إقتراب سفينة من الجزيرة. و لما سُؤِلَ كيف ثم العثور عليه، كان الجواب دُخَانُ النار التي شبت في الكوخ. وهذا أصل القول المأثور: رُبَ ضارة نافعة.