طفل ينوح ويصيح، مشاداة جسدية بين رجال الشرطة وشخص يحاول التملص من قبضتهم. تدافع وسب وشتم بلكنة مغاربية. يظهر شخص يحاول التدخل ليخلص الرجل من قبضة الشرطة، بينما شرطي آخر يقف أمامه محاولا ثنيه من الإقتراب. أشخاص بزي أمني يصلون مهرولين إلى المكان. تمت السيطرة على الرجل ووضعت على يديه الأصفاد وتوارى عن الانظار. يزداد صراخ الطفل. ثم يتعالى صوت رجل: ما هذا التصرف! لم يقم بأي شيء يستدعي تعاملكم الغريب هذا! مجموعة من المارة يتابعون المشهد، منهم من إستسلم للفضول ووقف يعاين عن قرب. يعود نفس الصوت مخاطبا الشرطة: فقط أريد أن أعرف أي ذنب اقترفنا؟ نحن لسنا مجرمين، نحن أناس محترمون. حتى قنينة الماء التي كانت في حوزتنا وضعناها في كيس لنحافظ على نظافة المكان. يظهر رجل أسود البشرة على الصورة، متحدثا بدوره إلى الشرطة: أنظروا لقد صدم الطفل بسبب تعاملكم الاإنساني لأبيه. يتزايد الإحتجاج و تتداخل الأصوات. تظهر شرطية في وضع غير مريح، وهي تحاول إشهار ابتسامة عابرة في وجه الطفل الصغير في محاولة لتهدئة روعه. الكل يؤثث مشهدا لصورة غير مطمئنة لشرطة وجدت نفسها في وضعية حرجة، وهي عاجزة عن تقديم أجوبة، وسط أجواء طبعها التشنج والإرتباك والحيرة.
المشهد هو مقطع فيديو يظهر توقيف الشرطة البريطانية لشخص من أصول مغاربية رفقة أقربائه، في ظروف يبدو من خلال طريقة الإحتجاج أنها غير طبيعية.
سيدة ذات بشرة سوداء تتناول الكلمة:” أود أن أخبركم، وأخبر الزملاء والزميلات، أنني كنت ضحية عنف من قبل الشرطة البلجيكية. وليس لهذا الحادث من عنوان سوى أنه فعل تمييزي بنزعة عنصرية. بالأمس وأنا أغادر محطة القطار الشمالية، شاهدت تسعة من رجال الأمن وهم يتحرشون بشابين بسحنة سوداء. أخرجت هاتفي وأخذت صورة للمشهد. وهو ما لا يعد مخالفا للقانون. بعدها مباشرة، توجه نحوي أربعة من رجال الأمن: نزعوا مني هاتفي و حقيبتي اليدوية وألصقوني بعنف ضد الحائط، ثم شرعوا في تحسس جسدي وساقي متاباعدتين، بطريقة مهينة وهادرة للكرامة. وفي حوزتهم كل الوثائق لإثبات هويتي: جواز سفري, بطاقة إقامتي وشارة عملي حول عنقي. اليوم وضعت شكاية لدى المصالح المختصة. لأنه لا يمكن بتاتا أن نقبل باستمرار هذه الممارسات العنفوية الأمنية. لذلك وجب إتخاد تدابير عملية آنية ضد هذه السلوكات، التي يقع ضحيتها العديد دون أن تتاح لهم الفرصة لتناول الكلمة أمامكم”. تعالت التصفيقات وسط البرلمان الأوروبي أمام تأثر المتحدثة وتقدم زميلة لها لمواساتها وهي تذرف الدموع جراء الإهانة التي تعرضت لها من طرف الشرطة البلجيكية، حسب روايتها.
والمتحدثة هي ألمانية، بجدور إفريقية. إنها Pierette Herzberger Fofana، عضو البرلمان الأوروبي.
حادثان متزامنان، إختلف فيهما المجال، وإجتمع فيهما نفس السجال. استسلم الحارس الأفرو-أمريكي جرجس فلويد لركبة الشرطي ديريك، وإهتزت أمريكا ومعها العالم إدانة وشجبا واستنكارا. وعاد النقاش ليطفو على السطح، واشتعلت المنابر سجالا وهي تتعرض للتمفصلات المتعددة، والتمظهرات المختلفة لأشكال التمييز والنزعة العنصرية. بل وعمت الفوضى المدن. وغرد مسؤول أمريكي: “حرق مدينة أمريكية كاملة لن ترجع جورج فلويد إلى الحياة”، ليرد عليه مواطن أمريكي: “تماما كما تفجير الشرق الأوسط لن يصحح حادثة 11 شتنبر”. مات فلويد، لكنه أحيى نقاشا ظنه الكثير متجاوزا و مستهلكا بل وفكرا ماضويا. حيث كشف الواقع معاشا رهيبا، تخفي واجهاته المزركشة، وآخر صيحات ألواحه الرقمية المثيرة، وشعاراته الرنانة، مشاهد لن يصح القول على أنها معزولة. كونها أصبحت قاعدة وليست استثناء. أو ربما الإستثناء الذي يؤكد القاعدة.
“لا أستطيع التنفس” (I can’t breathe) كانت آخر جملة تفوه بها فلويد بعد تكرارها مرات عدة. وقبلها عند مطلع السنة الجارية، ردد رجل التوصيل ( le livreur) الفرنسي Cedric Chouviat, البالغ من العمر 43 سنة، عبارة “إني أختنق” (J étouffe) سبع مرات قبل أن يصاب بلعومه بالكسر و يلفظ أنفاسه الأخيرة، يومين بعد تعنيف الشرطة الفرنسية له، خلال نقطة للمراقبة الطرقية على Quai Branley بباريس. على مقربة من متحف Quai Branley الشهير للفنون والحضارات الإفريقية والآسيوية والأقيانوس والأمريكيتين، والذي يفوق عدد زواره العشرة ملايين سنويا. فارق Cedric الحياة تاركا وراءه أرملة وخمسة أيتام صغار.
“إنني أتحمل كامل المسؤولية على هذه الأخطاء! وتبعا لذلك أضع استقالتي” كان هذا تصريح لقائد الشرطة Chris Magnus بولاية أريزونا الأمريكية عقب نشر فيديو يظهر فيه شرطيان وهما يثبتان وجه شاب هيسباني على الأرض ويديه محكمتان وراء ظهره. الشاب ذو السبعة والعشرون سنة، يقاوم ويصيح في محاولة للإشارة أنه لا يستطيع التنفس متوسلا جرعة ماء. بعد دقائق معدودة خمد الصياح والصراخ. وخمدت معهما أنفاس Carlors Ingram Lopez. توالت الإستقالات في صفوف رجال السلطة جراء الحادث الذي يعود إلى شهر أبريل الماضي، فقط بعد تداول شريط الفيديو الفاضح لممارسات لاإنسانية للشرطة الأمريكية.
وقائع متعددة ومتكررة لمشاهد عدوانية يكشف عنها رجال الشرطة في بلدان طالما تبجحت بالديمقراطية، وأطلقت العنان للدروس والأستاذية في الحقوق والإنسانية. توعدت، وهددت وأرهبت وهي تندد بالممارسات التمييزية، عنصرية كانت أم حقوقية. وأصبحت تقاريرها المنجزة من المؤسسات التابعة لها، أو المتحكم في خيوطها، تشهر البطائق الصفراء والحمراء في وجه من أشارت إليه الأصابع العشواء.
وحتى الأطفال لم يسلموا من الحقد الدفين على اللون والعرق والهجين: طفل في ربيعه التاسع، يمنع من ولوج أحد المطاعم بمدينة أمريكية. السبب: بذلة رياضية غير لائقة بالمكان. إلى هنا لا بأس، يمكن أن نتفهم الأمر ونمتثل لقواعد اللباس. لكن الغريب أن الزجاج الشفاف بداخل المطعم لم يستطع حجب طفل في نفس العمر، وبنفس البذلة الرياضية. فرق واحد فقط يميزهما: لون بشرتهما. تسائلت الأم لماذا؟ تلعثم المدير، تعثر لسانه وأتلف بيانه. شاعت الصورة، و بعدها جاء الإعتذار وأعفي المدير.
علق أحدهم على الأعمال العنصرية في الدول “الديمقراطية” قائلا: ” أكيد أننا لا نعيش في بلداننا جنة حقوقية، لكننا على الأقل نعيش في جنة إنسانية رغم إكراهاتها وعناد واقعها” هناك من إتفق وهناك من إختلف. ثم أضاف: “من الخطأ أن تكون الأمور الأكثر أهمية تحت رحمة الأمور الأقل أهمية”. وهنا طبعا إتفق الجميع. لكنني وجدت نفسي أنزع إلى الإختلاف، فقط في السهو عن تحديد معنى “الأمور الأكثر أهمية” توخيا للوضوح ورفعا للبس فقط! أعجبتني كثيرا حكمة يرددها بعض إخواننا الأفارقة: “نثير ضحككم لأننا مختلفون، وتثيرون ضحكنا لأنكم كلكم متشابهون”. وكما عبر عن ذلك، وبكل جمالية، الحكيم والفيلسوف الكولومبي Nicolas Gomez Davila:” يتضايق العنصري لأنه يخشى أن تتساوى الأعراق، وينزعج المعادي للعنصرية لأنه يخشى من أن لا تكون الأعراق متساوية”. إذا، وفي الأخير، هي مسألة تتعلق ب “المساواة” التي هي من صنع الله، لأن “التمييز” من صنع البشر. فالله خلق قاعدة، ومخلوقه يصر على خرقها ليخلق الإستثناء. كما تجسد ذلك المشاهد التي ساقتها لنا الصور، في دول “ديمقراطية” غير عادلة حتى في الظلم، على حد تعبير القول المأثور “المساوات في الظلم عدل”. لكم التعليق!