
تُعدّ قضية الصحراء المغربية واحدة من أكثر الملفات السياسية تعقيدًا واستمرارية في التاريخ الحديث للمنطقة المغاربية، إذ يتجاوز هذا النزاع في جوهره مجرد خلاف حدودي إلى صراع رمزي حول السيادة والشرعية والتموقع الإقليمي، فالمغرب يعتبر الصحراء جزءًا لا يتجزأ من ترابه الوطني، ويستند في ذلك إلى روابط تاريخية ودينية وسياسية تمتد عبر قرون متصلة في الزمان و المكان، في حين تواصل جبهة البوليساريو، بدعم واضح من الجزائر، المطالبة بانفصال الإقليم وتأسيس ما يسمى بـ«الجمهورية الصحراوية». بين هذين الموقفين، تتحرك الدبلوماسية الدولية منذ نصف قرن في دائرة مغلقة عنوانها التوازن الحذر، ونتيجتها جمود طويل لا يخدم الاستقرار في شمال إفريقيا.
منذ استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية سنة 1975 عبر «المسيرة الخضراء»، اختار نهج الواقعية بدل التصعيد، مستندًا إلى مقاربة تنموية وسياسية متكاملة جعلت من مبادرة الحكم الذاتي، التي قدمها سنة 2007، حجر الزاوية في رؤيته للحل، فالمغرب، وهو يرفض بشكل قاطع أي مساس بسيادته الوطنية، لا يغلق الباب أمام الحوار، بل يطرح تصورًا يعتبره منفتحًا وعمليًا، يمنح للسكان تدبير شؤونهم المحلية في إطار السيادة المغربية الكاملة، هذه المقاربة لم تبق مجرد طرح دبلوماسي، بل تحولت إلى مشروع واقعي يتجسد ميدانيًا في التطور العمراني والاقتصادي الذي تعرفه مدن العيون والداخلة والسمارة وبوجدور، حيث تحولت الصحراء إلى ورش مفتوح للاستثمار والبنية التحتية والطاقة المتجددة.
التحولات التي عرفتها مواقف الدول الكبرى خلال السنوات الأخيرة كشفت أن ميزان الشرعية بدأ يميل لصالح المغرب، فالاعتراف الأمريكي بسيادة المملكة على الصحراء سنة 2020 شكّل نقطة تحول استراتيجية في مسار النزاع، تبعته مواقف داعمة من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا….إضافة إلى أكثر من ثلاثين دولة افتتحت قنصلياتها في الأقاليم الجنوبية، هذه الخطوات الدبلوماسية، التي لم تأتِ من فراغ، تعكس اقتناعًا دوليًا متزايدًا بأن مبادرة الحكم الذاتي تشكل الإطار الأكثر واقعية ومرونة لإنهاء النزاع، خصوصًا في ظل استحالة تنظيم استفتاء لتقرير المصير في واقع ميداني تغيّر كليًا لصالح السيادة المغربية.
في المقابل، تبدو جبهة البوليساريو في وضع تراجعي واضح، سواء على المستوى السياسي أو الميداني، إذ فقدت جزءًا كبيرًا من الدعم الدولي الذي كانت تحظى به خلال الحرب الباردة، كما أن خطابها الانفصالي أصبح غير متلائم مع التحولات الإقليمية الراهنة التي تجعل من الوحدة والاستقرار أولوية قصوى أمام التهديدات الأمنية المتصاعدة في الساحل والصحراء، أما الجزائر، التي تواصل اعتبار نفسها “طرفا غير مباشر”، فهي في الواقع تمثل الحاضنة الرئيسية للجبهة، وتتعامل مع الملف باعتباره ورقة ضغط جيوسياسية في صراع النفوذ مع المغرب، أكثر منه التزامًا مبدئيًا بحق تقرير المصير. هذا التوظيف السياسي للقضية ساهم في تجميد الاتحاد المغاربي وقطع قنوات التعاون بين البلدين، ما جعل المنطقة كلها تدفع ثمن نزاع لم يعد يملك مبرراته التاريخية ولا منطقه السياسي.
من الناحية الجيوستراتيجية، بات المغرب يُدير ملف الصحراء بمنطق الدولة الصاعدة إقليميًا، لا بمنطق الدولة المدافعة فقط، فهو يربط بين التنمية الداخلية والانفتاح الإفريقي، ويقدّم الأقاليم الجنوبية كجسر للتكامل الاقتصادي بين شمال القارة وغربها. هذه المقاربة الجديدة لا تُغيّر فقط صورة الصحراء من منطقة نزاع إلى منطقة استثمار، بل تمنح الرباط شرعية مضاعفة: شرعية الإنجاز الملموس، وشرعية الموقف السياسي المسؤول.
ومع ذلك، تظل تحديات واقعية قائمة، فغياب إرادة حقيقية لدى الجزائر في دعم حل سياسي متوافق عليه، واستمرار الخطاب الانفصالي المتشنج لجبهة البوليساريو، يجعلان مسار التسوية الأممية يدور في فراغ، كما أن بعض التقارير الحقوقية الدولية ما تزال تُستخدم كورقة ضغط، رغم الجهود التي يبذلها المغرب في مجال الحريات والتنمية المحلية، غير أن المتتبع المنصف يلاحظ أن المقاربة المغربية تزداد رسوخًا بمرور الزمن، وأن الحضور الدولي في الأقاليم الجنوبية لم يعد رمزيًا بل اقتصاديًا وسياسيًا فعّالًا.
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن المستقبل القريب للنزاع مرشح لأن يعرف تثبيتًا متدرجًا لواقع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، مع استمرار الانفتاح على الحوار الأممي في حدود لا تمس الجوهر الوطني، فالمغرب كسب الرهان الدبلوماسي والاقتصادي، وخصومه يواجهون مأزق الزمن الذي لم يعد في صالحهم، وإذا كان التاريخ قد أثبت أن النزاعات المفتعلة لا تعيش إلى الأبد، فإن منطق التحولات الجارية يشير إلى أن الصحراء المغربية تسير نحو أن تكون، في الوعي الدولي، قضية محسومة ميدانيًا وإن لم تُعلن تسويتها رسميًا بعد.
في النهاية، يمكن القول إن المغرب انتقل من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الفعل، ومن خطاب الشرعية إلى منطق الفعالية، فالقضية التي أرادها الخصوم ورقة ابتزاز أصبحت اليوم عنوانًا لنجاح الدبلوماسية المغربية في فرض واقع جديد قوامه الاستقرار والتنمية والسيادة، ولعل هذا التحول هو ما يجعل من الصحراء المغربية، في لحظتها الراهنة، ليست فقط قضية وطنية، بل رمزًا لميلاد مغرب جديد أكثر حضورًا في إفريقيا، وأكثر قدرة على تحويل الجغرافيا إلى مشروع سياسي واقتصادي متكامل…



