
منبر24
منذ إعلان الحكومة المغربية اعتماد التوقيت الصيفي بشكل دائم، تحوّل موضوع الساعة الإضافية إلى واحد من أكثر الملفات إثارة للنقاش في الفضاء العام، قرار بدا في ظاهره إجراء تقنيا بسيطا، لكنه سرعان ما كشف عن أسئلة عميقة تتعلق بطريقة صناعة القرار العمومي، وحدود المشاركة المجتمعية، والوزن الحقيقي للمواطن في تحديد السياسات التي تمس حياته اليومية وإيقاعه البيولوجي.
الحكومة بررت منذ البداية (ولازالت تبرر) خيارها بالرغبة في مواءمة التوقيت الوطني مع الشركاء الاقتصاديين، خاصة الاتحاد الأوروبي، وتسهيل التبادل التجاري وتحسين مردودية الإدارة و توفير الطاقة…، غير أن هذه المبررات ظلت في نظر فئات واسعة من المغاربة غير كافية، لأنها لم ترفق بدراسة منشورة أو نقاش وطني مفتوح، ولم تعرض على البرلمان أو على هيئات استشارية قادرة على تمثيل وجهات نظر متعددة، وفي غابت المقاربة التشاركية، ظهر القرار وكأنه جرى تمريره بمنطق الإدارة لا بمنطق السياسة، وبأسلوب فوقي لا ينسجم مع تطلعات مواطن يبحث عن اعتراف بدوره في تشكيل السياسات العامة.
التأثيرات الاجتماعية والنفسية للساعة الإضافية تعكس عمق الإشكال، فالتلاميذ والأطفال يجدون أنفسهم مجبرين على مغادرة منازلهم في عتمة فصلي الشتاء و الخريف، ما يثير مخاوف تتعلق بالأمن وسلامة التنقل، إضافة إلى الضغط النفسي الناتج عن الاستيقاظ القسري في وقت غير ملائم لإيقاعات النوم الطبيعية، ويرى العديد من الأطباء و المختصين أن هذا النوع من التوقيت الدائم يخالف الساعة البيولوجية للجسم التي تحتاج إلى ضوء الصباح لضبط الإيقاع اليومي، مما يؤدي إلى اضطرابات في النوم وصعوبة في التركيز وانخفاض في الطاقة، وهي تأثيرات تطال الأطفال والبالغين على حد سواء.
أما العمال والموظفون، فإنهم يعيشون بدورهم ارتباكا دائما في التوازن بين العمل والراحة، إذ لم ينجح الكثيرون في التأقلم الكامل مع تغيير نمط يومهم، فقد باتت الفجوة الزمنية بين شروق الشمس وبداية العمل كبيرة خلال أشهر الشتاء، ما يسبب إحساسا عاما بالتعب وفقدان الحيوية في الساعات الأولى من النهار، وفي البيوت، تتضاعف التحديات… فالأسر التي تحاول تنظيم أوقات الدراسة والمرافقة المدرسية والطهي والعمل المنزلي تجد نفسها أمام يوم طويل وغير متناغم، وكأن الزمن نفسه لم يعد طبيعياً وغابت عنه البركة.
رغم الاحتجاجات المتكررة والنقاشات الواسعة في وسائل التواصل الاجتماعي، تُصر الحكومة على موقفها، التفسير الرسمي ثابت: هناك مكاسب اقتصادية، وهناك دراسات تقنية تؤكد جدوى هذا الخيار، غير أن هذه الدراسات لم تنشر للرأي العام، ولم تفعل آليات التواصل التي تتيح للمواطنين الاطلاع على المعطيات الحقيقية، هذا الغياب يغذي شعورا عميقا بانعدام الثقة، إذ يتساءل المواطن البسيط: إذا كانت هناك فوائد واضحة، فلماذا لا يتم الكشف عنها بشفافية؟ ولماذا لا يفتح نقاش تشاركي يضم الخبراء والحقوقيين والنقابات والجمعيات المهنية؟
في السياق الدولي، يبرز عنصر مثير للاهتمام: إسبانيا، الشريك القريب والأقوى للمغرب، ما تزال تعتمد التوقيتين الشتوي والصيفي، وتناقش باستمرار إصلاح سياستها الزمنية، بل هناك تيارات واسعة داخلها تطالب بالعودة إلى التوقيت الطبيعي (GMT)، ما يعني أن “حجة المواءمة الأوروبية” التي تستند إليها الحكومة المغربية ليست نهائية ولا محسومة، ماذا لو قررت أوروبا تغيير منظومتها الزمنية؟ هل سيكون المغرب مضطراً مرّة أخرى لاستنساخ القرار دون نقاش داخلي؟ هذا السؤال يضع السياسة الزمنية للمغرب أمام اختبار الاستقلالية والقدرة على اتخاذ الخيارات بناء على مصلحة المواطن أولاً.
من زاوية تحليلية، يتجاوز الجدل حول الساعة الإضافية كل الاعتبارات التقنية، إنه نقاش حول معنى المشاركة، وحول دور الدولة في إدارة التفاصيل اليومية التي تؤثر في جودة حياة المواطنين، هل يحق للدولة أن تتخذ قرارا تمس به نوم الأطفال وتوازن الأسر دون استشارة؟ أم أن زمن “القرارات المغلقة” انتهى، وباتت الديمقراطية تتطلب نقاشا شفافاً حتى في أبسط السياسات؟
إن مستقبل هذا الملف يتوقف على شجاعة سياسية قادرة على إعادة بناء الثقة: نشر الدراسات التي استند إليها و فتح حوار مجتمعي حقيقي، تقييم الآثار الصحية والاجتماعية بشكل علمي، ثم اتخاذ القرار بناء على مصلحة المجتمع لا مصلحة الحسابات الاقتصادية فقط، فالزمن ليس شأناً تقنياً محضاً، بل عنصر أساسي في رفاهية الإنسان واستقراره النفسي.
قد تكون الساعة الإضافية مجرد ستين دقيقة فوق التوقيت الأصلي، لكنها تحولت إلى مرآة تعكس الكثير: علاقة الدولة بمواطنيها، حدود الشفافية في القرار العمومي، وموقع الإنسان داخل السياسات الحكومية، ومن هنا يبدأ النقاش الحقيقي… ليس حول الوقت فقط، بل حول الزمن السياسي الذي يجب أن ينتقل من منطق الإملاء إلى منطق الإصغاء…


