شارك رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، الدكتور منير القادري، السبت 24 أبريل الجاري، بمداخلة علمية في الليلة الرقمية الخمسين، المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، ضمن فعاليات ليالي الوصال “ذكر وفكر في زمن كورونا”، تناول من خلالها موضوع ” ذكر الله تربية روحية وممارسة اخلاقية”.
استهلها باستعراض مجموعة من الاحاديث النبوية المرغبة في ذكر الله عز وجل والمبينة لمكانته وفضله، منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الامام الأحمد “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى” ، والحديث الوارد في صحيح البخاري عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت” وغيرها من الاحاديث النبوية.
وفي ذات السياق ذكر ثلة من أقوال السلف والعلماء، منها قول عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ: «ذِكْرُ النَّاسِ دَاءٌ، وَذِكْرُ اللهِ دَوَاءٌ»، أعقبها بتعليق الامام الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ على هذا القول في كتابه سير أعلام النّبلاء «قُلْتُ: إِي وَاللهِ، فَالعَجَبَ مِنَّا وَمِنْ جَهْلِنَا كَيْفَ نَدَعُ الدَّوَاءَ وَنَقْتَحِمُ الدَّاءَ؟، وَلَكِنْ لاَ يَتَهَيَّأُ ذَلِكَ إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللهِ، وَمَنْ أدْمَنَ الدُّعَاءَ وَلاَزَمَ قَرْعَ البَابِ فُتِحَ لَهُ» ، وقول الحسن البصري في معنى قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة الآية152)،” فاذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي” وكذا قول سعيد بن جبير في معنى ذات الآية: “فاذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي ورحمتي”.
وأشار الدكتور منير الى ان الذكر هو التّخَلُّص من الغفلة والنسيان، بدوام حضور القلب مع الرحمان، وأنه استغراق الذاكر في شهود المذكور، وأضاف بأنه استهلاك ذات العابد في حضرة المعبود، حتى لا يبقى منه أثر، فيقال قد كان مرةً فلان، وزاد بأنه لذة قلوب العارفين و معراج أرواح الذاكرين و باب الواصلين إلى حضرة رب العالمين.
وأوضح أن التسبيح والتكبير والاستغفار والدُّعاء والصلاة والصوم وقراءة القرآن، كلها عبادات من الذكر وبالذكر، وأن غايتها تزكية النفس وصفائها وشعور القلب بالأمن والاطمئنان في قرب مولاه، موردا بخصوص هذا المعنى قول ابن القيم رحمه الله “إن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصائمين أكثرهم ذكراً لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وأفضل الحجيج أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وهكذا في سائر الأحوال”.
وزاد أن ذكر الله روضة من رياض الجنة فيها حياة القلب وطمأنينته، وان من أعطي الذكر فقد أعطي منشور الولاية، مذكرا في ذات السياق بقول ابن القيم: “الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا، وهو سلاحهم الذي به يقاتلون قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست فيهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب”.
ولفت رئيس مؤسسة الملتقى الى أن رؤوس مواضيع الذكر تكمن في عناصر خمسة، ينبغي للعبد المؤمن أن يضعها في أهم أولوياته وهو ينظم جدول يومه وليلته، تتمثل أولاها في القرآن الكريم قراءة و تعبدا ، مشيرا الى أن الله تعالى سماه ذكرا في غير ما آية، منها قوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون”، وثانيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مذكرا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح “من صلى علي صلاة واحدة ،صلى الله بها عليه عشرا”، وثالثتها الأذكار والأدعية الوظيفية التي تضم الأوراد الفردية و الجماعية، وغير ذلك مما ينبغي أن يحفظه ويحافظ عليه المريد الطالب وجه الله في حياته اليومية، وتابع شارحا أن الأفضل هو أن ينشغل المؤمن بذكر الله عز وجل غير متعلق بأغراض دنيوية دنية، موردا قول ابن عطاء الله في حكمه: “لا يستحقر الورد إلا جهول: الوارد يوجد في الدار الآخرة، والورد ينطوي بانطواء هذه الدار، وأولى ما يعتنى به –ما لا يخلف وجوده- الورد هو طالبه منك، والوارد أنت تطلبه منه، وأين ما هو طالبه منك مما هو مطلبك منه”، ليخلص الى أن الخاصية العامة للذكر تتجلى في قوله تعالى في سورة الزخرف “ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين”(الآية 36) .
ورابعها الاستغفار، مشيرا الى انه خصصه بالذكر بسبب كثرة ما ورد بشأنه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، موردا قول النووي في الأذكار “والآيات في الاستغفار كثيرة معروفة، وأما الأحاديث الواردة في الاستغفار، فلا يمكن استقصاؤها”، وكذا الحديث القدسي “من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين “.
وخامسها الدعاء المطلق لله بما يحتاجه العبد من خيري الدنيا والآخرة وغير ذلك بلا توقيت معين، مشيرا الى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون الله الملح في طعامهم، وأشار الى أن ذكر الله تعالى أفضل من كل شيء سواه، وأن هذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وقتادة، مذكرا بقول ابن القيم: (وقال ابن زيد وقتادة: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء. وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال للسائل: أما تقرأ القرآن: “ولذكر الله أكبر”، ونبه الى أن ذكر الله يقيم التوازن بين مطالب الروح و الجسد ويلقي في النفس البشرية قوة تتضاءل أمامها هموم الحياة.
واستطرد أن ذكر الله عامل من عوامل الاصلاح الاجتماعي، ومحاربة الفساد، والانحطاط، المتمثّل بالفحشاء والمنكر، وأنه يعود بأفضل النتائج الاصلاحية على حياة الفرد والمجتمع والدولة، حيث يصبح الفرد السالك سبل الذاكرين نواة و جزءا من المجتمع الذاكر الله، ومركزاً لاشعاع الخير والاصلاح والاستقامة، واكد أن التربية على الذكر تزرع في النفس يقظة الضمير بدوام الاتصال بالله والخوف من معصيته، والحياء من مخالفته، فالذي يذكر ربه ويتصور عظمته: يخشع قلبه ويلين، فلا يصدر عنه من الأفعال إلا كل خير لانه يعلم أن الله مطلع عليه، إضافة الى أنها تربّي في النفس الرغبة في التوبة والاقبال على الصلاح والاستقامة بدوام الاستغفار وتكرار الاستعاذة من الذنوب، فتتّسع في النفس مسافات البعد بينها وبين الجريمة والمعصية، وتتأكد فيها الرغبة في الصلاح والاستقامة، كما أنها تربّي في نفس المريد حبّ الخير للجميع، وتنقذه من الحقد والأنانية اللّذين هما مصدر كلّ الشرور والمآسي البشرية في كلّ مجالات حياتها، موضحا أنه بدعائه يطلب الخير للجميع، ويدعو لهم بالخير والمغفرة، فتنمو في نفسه مشاعر الحبّ بأوسع صيغها الاجتماعية الشاملة ليتجسّد سلوكاً وعملاً تحيا الانسانية في ظلاله آمنة مطمئنة.
وبين أن أولياء الله فطنوا وتيقَّنوا أن ذِكْرهم لله هو مصدر قوتهم، وأن حاجة أرواحهم للزاد الروحي أحوج من حاجة أجسادهم للغذاء ، لذلك كانت قلوبهم معلَّقة بالله، وألسنتهم تلهج بذكر الله، موردا مجموعة من أقوالهم منها يقول يحيى بن معاذ: “يا غفول يا جهول، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك مولاك لمِتَّ شوقًا إليه.
و أضاف أن الصوفية جعلوا الذكر العمدة في الطريق والرُّكن الركين في السير والسلوك، والأساس المتين في التخلية والتحلية والترقي، وجميع الخصال المحمودة عندهم راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر؛ مِن ذلك قول الإمام أبو القاسم القشيري: “الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق، يقول ابن عجيبة:” واعلم أن الذكر أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل”.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن التربية الاحسانية العرفانية على يدي الشيخ المربي تقوم على غرس القيم و مكارم الأخلاق و الثبات في مجاهدة النفس والمواظبة على الأذكار، فالتجربة الصوفية هي ممارسة حية عملية تكسب المريد ممارسات ذوقية شخصية تجعل منه فردا صالحا في نفسه و مصلحا في مجتمعة.