مرت الأمة الإسلامية بأزمات عديدة، وفترات عصيبة، وابتلاءات كثيرة، وأوبئة شتّى، وطواعين تَتْرى، وكانت تجابهها بالفكر الحر، والعقل السليم، والتفكير المستنير، والنظرة الاستشرافية ، والتصور الصحيح، فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات وتبحث في النتائج، دون تخوين لهذا الطرف، أو شيطنة لذاك الطرف، فالكل يحمل نفس الهم، والكل يسعى إلى إخراج الأمة من الوضع المأزوم الذي تعيشه، والظرف العصيب الذي تمر منه، غير أننا في هذا الزمن، لاعتبارات فكرية، وتوجهات أيديولوجية، أصبح كل طرف يبادر باتهام الطرف الآخر، وتخوينه وشيطنته، ويظهر هذا جليا في الواقع الذي نعيش فيه، سواء قبل وقوع هذا البلاء – الوباء- ” كورونا أو ما يصطلح عليه ب covid 19″ أو بعد وقوعه، وربما اشتدت اللهجة بعده، فترانا بين اتجاهين:
اتجاه ينادي بأن المخرج من هذا المأزق، إنما هو باتخاذ الأسباب المادية الطبية فقط، القائمة على إيجاد اللقاح ضد هذا الوباء في إطار مختبرات البحث، والتجربة، والتحليلات المجهرية، ضاربين عرض الحائط كل سبب آخر غير مادي –غيبي /ميتافيزيقي/ديني- بناء على نظرتهم أن الدين أوهام، والغيب أسطورة، والشرع خرافة، والدعاء وهم، وما شاكل ذلك من نسف للمعتقدات الدينية التي هي من صميم هوية هذا البلد، والتي هي جزء لا يتجزأ من حضارته.
وهذا الاتجاه وللأسف ينطلق من فكرة مفادها، عدم تقديس المقدس وإلغاء قدسيته، زاعمين أن لا قدسية لا لنصوص الوحيين، بل القداسة للعلم والتجربة والحس فقط، وأنه ليس هناك محرمات أو ممنوعات أو محظورات، وأن الخطاب الديني يجب تغييره وقراءته وفق المتغيرات الحديثة، فليس هناك ما يصطلح عليه إسلامٌ صالح لكل زمان ومكان، وليس هناك ثوابت، وليس هناك مسلمات، بل كل شيء متغير ويجب أن يخضع للتغيير، كما يجب أن تحدث قطيعة كلية بين ما هو ديني غيبي أسطوري، وبين ما هو علمي حقيقي واقعي، من أجل نشدان مجتمع حديث عصري ينبني على أسس العلمانية والحداثة، فلذلك ترى ردودهم في مواقع التواصل الاجتماعي، والجرائد الإلكترونية تحمل الغل والحقد على أهل الإسلام، بالانتقاد، والتهجم، والسب، والطعن، واللمز، ومن أمثلة ذلك تهكمهم أن يكون هذا الوباء جندا من جنود الله تعالى، قائلين بلسان حالهم: ((لم يجد الله أن يتخذ جندا إلا هذا الوباء))، وتتعالى قهقهاتهم -زاعمين- حول سخافة العقل المسلم. ومن أمثلة ذلك وهو بيت القصيد سخريتهم من الدعاء وقولهم بقلوب ملؤها الإنكار، وأَلْسِنة ملؤها التكذيب: (( وهل الدعاء لقاح حتى يرفع البلاء))، وترتفع صيحات الاستهزاء بالمسلمين، وكيف أدى بهم تفكيرهم الساذج أن يثقوا في مجرد كلام يتوجهون به إلى غير مرئي، معتقدين فيه رفع الضر عنهم، والدول الغربية تسارع بعلمائها وأطبائها بخطى متسارعة وحثيثة إلى اكتشاف الدواء. ومن أمثلة ذلك استخفافهم بالعقل المسلم الذي يلجأ إلى الصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن من أجل كشف هذا الضر، واستغرابهم كيف لهذه السلوكات التي لا تمت بصلة لمجال العلوم الطبية أو المخبرية أن تكون سببا في إنقاذ البشرية من وباء يودي بحياة آلاف من الناس في اليوم الواحد، إنه العقل العاجز البطّال حسب زعمهم. والأمثلة عديدة.
واتجاه على النقيض من الأول، -وللأسف يعطي المشروعية للاتجاه الأول في الانتقاد- فهو يرى أن الله هو مسبب الأسباب، وأن الله هو النافع الضار، وما شاء فعل، وأن لا داعي لأي أخذ بسبب من أسباب النجاة المادية مادام الله هو القادر على إشفاء الناس فليس للناس أن يلجؤوا إلا إليه، وأن لا يتوكلوا إلا عليه، وأن لا يسألوا إلا إياه، فالإنسان كالريشة في مهب الريح ليس له إرادة أو حرية، بل هو خاضع لأمر الله، فإذا جاء أمره فما عليه إلا أن يستسلم ويخضع ويرضى بالقضاء والقدر إن خيرا وإن شرا، وهذا الوباء من قدر الله، وليس للإنسان إلا أن يلجأ إلى الله بالدعاء والتضرع والابتهال حتى تزول هذه الغمة، وسنده في ذلك فهمه الخاطئ لنصوص قرآنية وحديثية مثل قوله تعالى: “فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا” الأنعام 43، وقوله تعالى: “ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً” الأعراف 55، وقوله تعالى : ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” غافر 60، وقوله عليه السلام في الحديث الذي أخرجه أبو داوود في سننه ، كتاب الوتر، باب الدعاء من حديث النعمان بن بشير: (( الدعاء هو العبادة))، وكذا الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع الله غضب الله عليه))، وغيرها من النصوص الدالة على ضرورة التعبد لله بالدعاء بقصد رفع البلاء، ودفع البأساء والضراء.
كما أن هذا الاتجاه وللأسف بعدم التزامه بتوجيهات أولي الأمر من الأطباء بالتزام الحجر الصحي، وعدم المخالطة والمصافحة والخروج، وضرورة البقاء في البيوت، وامتثال قواعد النظافة والتطهير، فهو يكرس لثقافة الجهل، والبلادة والبله والطيش والحماقة وخفة العقل وقلة الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وردا على هذين الاتجاهين، وردا للأمور إلى نصابها، لا بد من توطئة لفهم هذه الجدلية جدلية الأخذ بالأسباب المادية القدرية الكونية، والأسباب الشرعية.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تعبده الله بالأخذ بسببين، سبب كوني مادي قدري، وسبب شرعي ديني من أجل تحصيل مطلوباته ومرغوباته. السبب المادي غايته تحصيل مطلوب مادي بقدر مادي، كتحصيل الشّبَع بالأكل، وتحصيل الرِّي بالشرب، والولد بالزواج والصحة بالدواء، وهكذا.
وسبب شرعي غايته تحصيل مطلوب شرعي بقدر شرعي، وهو الغاية من التكليف، وتدخل فيه الأوامر والنواهي التي وجب على المكلف الامتثال لها والانتهاء عنها، لذلك تجد ربّنا سبحانه في غير ما آية يؤكد على أن سُنَنه وأمراه الكونيان والشرعيان لا يتغيران ولا يتبدلان، ومنه قوله تعالى: ” وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ” الأحزاب 62، وقوله تعالى: ” فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلً” فاطر 43، وقوله: ” وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ” الأحزاب 38.
وهذا مبحث عقدي صِرْف لا يحق للداخل فيه أن يقول فيه بغير علم، وبمجرد التشهي، وردا لقول الله ورسوله، إذ أصل ضلال من ضل من الفرق والنحل والملل والمفكرين والمثقفين، هو خوضهم في القدر. يقول الطحاوي: ” وأصل القدر، سر الله تعالى في خلقه، لم يُطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرج الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا، أو فكرا، أو وسوسة، فإنه تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال عز وجل: “لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ”.
وقال الشاعر: وأصل ضلال الخلق من كل فرقة هو الخوض في فعل الإله بعلةِ
ومن هنا يتبين أن خطأ الفريقين إنما جاء من سوء إدراكهم لمبحث القدر فكانا على طرفي نقيض، الأول غالى في الأخذ بالأسباب وجعلها هي المسببة للنتائج، فلا شفاء ولا علاج إلا باللقاح والدواء ضاربا عرض الحائط قدرة الدعاء على رد الآفات وشفاء المرضى، والثاني غالى في التوكل ونفى الأسباب وزعم أن الله هو الشافي فإذا شاء رفع الداء وجاء بالشفاء ولا ينفع المرء أخذه بالأسباب المادية مادام الله هو مسبب الأسباب.
والصواب كما قال علماء العقيدة أن هناك قسما ثالثا وهو أن هذا المقدور -رفع وباء الكورونا- قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يُقدر مجردا عن سببه، ولكن قُدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قُدّر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وهذا القسم هو الحق، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب.
وكيف لا يكون الدعاء سببا وربنا سبحانه وتعالى يدعو الناس لعبادته به، بقوله: ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”. غافر الآية 60، وقال : ” أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ” النمل 62، وقال أيضا:” قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ” الإسراء 110، وقوله:” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان” البقرة 186، وغيرها كثير من الآيات التي تدل بمنطوقها ومفهومها على أن تحقيق المطلوب إنما يكون بالدعاء مع الأخذ بالأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم (( اعقلها وتوكل))، فأمر صاحب الناقة بربطها حتى لا تتيه وتضيع منه، ثم أمره بالتوكل على الله في حفظها ورعايتها.
وهكذا يتبين أن هذه الجدلية، جدلية الأخذ بالأسباب المادية، والأسباب الشرعية إنما هي ثنائية لا يمكن أن تفصل إحداهما عن الأخرى، باعتبارهما أمران مطلوبان من المسلم الحق.
والأمر بالدعاء وفضله وكونه من أسباب رفع البلاء، وزيادة الرزق، وتحصيل البركة، وحصول الشفاء، إنما كان من الشارع ليُعْلِم عباده أن الأسباب لا تنتج مسبباتها من ذاتيتها وإنما منه سبحانه، وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم – على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها – على أن الدعاء من الأسباب الجالبة لكل خير وأن الأخذ به لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب المادية، وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول السرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال والدعاء، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن كثير، فنوح عليه السلام أخذ بالأسباب المادية للنجاة، ولما ضاقت به السبل وأَيِسَ من قومه دعا عليهم بقوله: “رب لا تذر على الكافرين منها ديّارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا” سورة نوح 26، فجاء الجواب من الله سبحانه:” ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قُدِر” القمر 11.
ويونس عليه السلام لما التقمه الحوت وظن الهلاك لم يجد ملجأ من الله إلى إليه، فكان التسبيح منجاة له من الهلاك المحقق، يقول تعالى: ” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ َكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ” الأنبياء 87/88.
وأيوب عليه السلام وهو بيت القصيد لما أصيب بالمرض والداء كُشِف عنه الداء بسببين الأول شرعي تمثل في دعائه ربه كشف الضر عنه، والثاني: مادي وهو اغتساله من الماء ليكون سببا كذلك في الشفاء، يقول تعالى: ” وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ” الأنبياء 83/84، وقوله تعالى:” اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب”. .
ومن نظر سيرة الخلفاء يرى بما لا يدع للشك أن البلاء يدفع بالدعاء مع اتخاذ الأسباب فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستنصر بالدعاء مع تجييشه الجيوش، ويعتبر الدعاء من أعظم جنديه وكان يقول لجيشه: “لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء”.
بل إن الأخبار في رفع البلاء بالدعاء أكثر من أن تحصر أو تعد، ولا يكابر في ذلك إلا جاحد مكابر، وعين الشمـس لا تغطـى بالغربال، والحقية لا يطمسها الكذوب المتعال، بل إن أمم الأرض كلها حين تأتيها النوائب لا تجد بدا من توجهها إلى السماء، وفي زمن -الكورونا- لم يجد رئيس وزراء إيطاليا إلا الاستسلام أمام هذه الجائحة فقال : “الوباء يفتك بنا، انتهت حلول الأرض، ولم تبق إلا حلول السماء”. فأين نحن ممن ينكر –وللأسف – من بني جلدتنا قدرة الدعاء على رد البلاء ودفعه.
وختاما نقول: إن المومن مطالب باتخاذ الأسباب بنوعيها سواء كانت قدرية كونية، أم دينية شرعية من أجل تحقيق مطلوبه، والموفق من ألهمه الله رشده بدفع أقداره بأقداره، إذ لا تضاد بين أقدار الله تعالى، وأن الدعاء يرد القدر، فالأمر كله لله، والحكم كله لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين
اعلان
اعلان
اعلان