يواجه العالم إزاء تفشي وباء كورونا مجموعة من التحديات، وستعتني ورقتي بإبراز مظاهر التحدي في قطاع التعليم، والتطرق لمختلف التهديدات والفرص التي تواجهه، خصوصا بعد توقف الدراسة الحضورية في المدارس والجامعات ومعاهد التكوين، وتـُعلق أودري أزولاي المديرة العامة لليونسكو على هذا الحدث قائلة “لم يسبق لنا أبداً أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب في مجال التعليم”.هذا الاضطراب جعل خيار التعليم عن بعد خيارا استراتيجيا لمختلف دول العالم، قصد ضمان الاستمرارية البيداغوجية. خصوصا بعد أن طالب د. تيدروس ادهانوم جيبريسوس، مدير منظمة الصحة العالمية، كل الدول التي تشهد انتشار فيروس كورونا وقف المدارس وتعليق الفعاليات.وأوضح هذا الأخير بأن الهدف الأساسي هو وقف الفيروس ومنعه من الانتشار.
فما أشكال التعليم عن بعد المعتمدة في المغرب؟ وما سُبل تعميم هذه التجربة في نظامنا التعليمي المغربي؟ وما هي ضمانات نجاح هذا النمط من التعلم؟
تلك مجموعة من الأسئلة التي سأحاول من خلالها إضاءة موضوع سيرورات التعليم والتعلم عن بعد في زمن كورونا، لنظفر في الأخير بثلة من الاقتراحات العملية، وتصور واضح المعالم، للنهوض بقطاع التعليم في ظل هذه الجائحة العالمية، بل وتكريس هذا النمط من التعليم )أي التعليم عن بعد(، نظرا لآثاره الإيجابية كما سيأتي ذكره.
تعرف اليونسكو التعليم عن بُعد بأنه الاستخدام المُنظم للوسائط المطبوعة وغير المطبوعة التي تكون مُعدة إعدادا جيدا من أجل جسر الانفصال بين المتعلمين والمعلمين، وتوفير الدعم للمتعلمين في دراستهم.
ووفقا لذلك فلقد تم اعتماد التعليم عن بعد عبر القناة التلفزية الرابعة والثقافية و البوابة الإلكترونية تلميذ تيس، ومختلف وسائل التواصل المتاحة، بعدما قررت الحكومة المغربية يومه 13 من شهر مارس المنصرم، إغلاق جميع المدارس، كما نسجل باعتزاز إعلان شركات الاتصالات الثلاث العاملة بالمغرب يوم 22 من نفس الشهر انخراطها التام في دعم قطاع التعليم، إذ قررت أن يصبح الولوج مجانيا بصفة مؤقتة عبر الشبكات الثابتة والمتنقلة، إلى جميع المواقع والمنصات المتعلقة بالتعليم أو التكوين عن بُعد، الموضوعة من قبل وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي.
كل ما سبق لم يكن كافيا، لأنه كما يعرف الجميع، فالأذن الجائعة لا تسمع إلا طنين الخبز، فبالإضافة إلى حق التعليم هناك حق الحماية والصحة والحياة، والحق في جو أسري يسود فيه الأمان.
وللحد من الآثار السلبية لهذه الجائحة على التلميذات والتلاميذ، عملت الدولة على دعم الأسر العاملة في القطاع غير المهيكل، التي تضررت جراء توقفها عن العمل نتيجة حالة الطوارئ الصحية التي اعتمدتها الحكومة في مواجهة انتشار وباء كورونا. وكذا عملية الدعم المؤقت للأسر العاملة في القطاع الخاص، والحاملين لبطاقة راميد، وحُددت هذه المساعدة المالية الشهرية على النحو التالي:
o أولا: 800 درهم للأسرة المكونة من فردين أو أقل،
o ثانيا: 1000 درهم الاسرة المكونة من ثلاث إلى أربع أفراد،
o ثالثا: 1200 درهم للأسرة التي يتعدى عدد أفرادها أربعة أشخاص.
بالإضافة إلى برنامج تيسير لدعم التمدرس، الذي تمنح من خلاله الدولة منحة شهرية لعشرة أشهر من السنة الدراسية، تسلم المنحة لولي أمر التلميذ (الأب، الأم أو وصي التلميذ)، والذي انطلق العمل به موسم 2008. ويهدف برنامج “تيسير” إلى الحد من ظاهرة الهدر المدرسي بتحييد بعض العوامل المؤثرة سلبا على طلب التمدرس، وخاصة الكُلفة المباشرة وغير المباشرة للتمدرس )في انتظار تعميمه قريبا(.
قد يقول البعض بأن المبالغ المرصودة أعلاه زهيدة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فحتى الدول المتقدمة لم تكن على موعد بهذه الجائحة وانعكاساتها السلبية على شتى المجالات، وبالرغم من ذلك نطمح أن تتحسن الأمور بفضل تظافر جهود الجميع، رغم أن الأوضاع الاقتصادية للعالم لا تبشر بخير، فحسب متتبعين، قد تتسبب جائحة كورونا في أسوأ تراجع اقتصادي منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي )ويعد انهيار أسعار النفط المثال الصارخ على ذلك(.
وتُستخلص تلك المساعدات المشار إليها سابقا من “الصندوق الخاص لتدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا”. والذي تم إحداثه بموجب مرسوم، تنفيذا للتعليمات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، الداعية إلى توفير شروط تمويل الإجراءات الوقائية لمواجهة فيروس كورونا والحد من آثاره.
فحسب وزارة الاقتصاد والمالية تم تخصيص هذا الحساب الذي رُصدت له من الميزانية العامة للدولة اعتمادات مالية بمبلغ 10 مليارات درهم بشكل رئيسي من أجل: تحمُل تكاليف تأهيل الآليات و الوسائل الصحية، ودعم الاقتصاد الوطني لمواجهة تداعيات هذا الوباء. وتم تمويل الصندوق أيضًا من خلال مساهمة العديد من الهيئات والمؤسسات وجمع التبرعات.
وتأتي هذه الحُزمة من الإجراءات للتخفيف من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة كورونا، في علاقتها بموضوع التعلم عن بعد، لخفض معدلات التسرب من الدراسة، وكذا توفير المساواة وتكافؤ الفرص. والحد من الآثار السلبية لهذه الجائحة على التعلُّم والتعليم المدرسي ما أمكن، والتفكير أيضاً في كيفية خروج المغرب من هذه الجائحة وهو أقوى من ذي قبل.
فالاستثمار في التحول الرقمي في التعليم ظاهر الآن على السطح، وأزمة جائحة كورونا كسرت العديد من الحواجز لدى التلاميذ والأساتذة لتفعيل التقنية في التعليم، فموضوع التعليم في الوسائط الرقمية كان يُتداول قبل الجائحة في صورتين نمطيتين: تعنيف أستاذ لتلميذ أو العكس.
ورب ضارة نافعة، فصرنا نرى اليوم التواصل الإيجابي والفعال بين الأستاذ والتلميذ في مختلف الوسائط الرقمية )الأنشطة الثقافية والفنية والأدبية، التربية على المواطنة، الإبداع الموسيقي والغنائي …(، وبدأ يتحقق تراكم نوعي في الموارد، مما سيوفر مجموعة من الأدوات الرقمية والحلول الكفيلة بإدارة عملية التعلم من أجل تحميل الموارد الرقمية لتنظيم التعلم عن بعد، وتعزيز الخبرة التقنية، وسيحرص على إيلاء اهتمام خاص لضمان آمن للبيانات وحماية خصوصية التلاميذ والأساتذة.
خصوصا بعد تحذير منظمة الصحة العالمية، من أن العالم قد يضطر للتعايش مع وجود فيروس كورونا المستجد، مؤكدة أنه قد لا يختفي أبدا، وقد ينضم إلى مزيج الفيروسات التي تقتل الناس في جميع أنحاء العالم كل عام، ففيروس نقص المناعة المكتسبة HIV المسبب لمرض الإيدز، لم ينته وجوده، ولكننا تعايشنا معه.
إن التعليم عن بعد قد رفع الحَرَج عن استخدام التكنولوجيا، بعدما كان يتم اعتبارها ترفا ومضيعة للوقت وأداة تسلية، أو وسيلة لإثارة الفضائح فقط، هذه الرؤية الجديدة ستدفع عجلة تنامي المحتوى الرقمي ومنصات التعليم الرقمي بتسارع أكبر عبر تشجيع الدولة له ودعمه بالتقنية والأجهزة الذكية، وما أشرنا إليه سابقا من دعم الدولة للفئات المتضررة منذ سنوات خلت يؤكد نجاح رؤية المملكة المغربية في الاهتمام والاستثمار في التحول الرقمي لشتى المجالات، إذ حول المغرب محنته مع كورونا إلى منحة، وذلك منذ اتخاذ القرار بتوقيف الدراسة الحضورية، حيث انتقل جميع التلاميذ والطلبة إلى مسار التعلم عن بعد مباشرة عبر القنوات التلفزية والراديو والمنصات التعليمية وكذا وسائل التواصل الاجتماعي، هنا نفتح القوس لنشكر جميع الأستاذات والأساتذة الذين ضحوا بالغالي والنفيس وبكل نكران للذات، فإذا كان الأستاذ في العادة يشتغل ما قبل كورونا – ساعات محددة في اليوم- فإن وقته الآن أصبح متاحا طيلة اليوم للتواصل مع المتعلمين وتوجيههم والإجابة عن استفساراتهم، وموارده المالية مسخرة لاقتناء وسائل العمل، كي يقدم المحتوى الرقمي بجودة عالية، فإذا كان الأطباء يحاربون فيروس كورونا، فإن الأساتذة يحاربون ما هو أشد منه: إنه فيروس الجهل، فتحية خالصة من هذا المنبر لكل أستاذ وأستاذة.
بناء على ما سبق، فإن الإجراءات المتخذة في المملكة المغربية، وومثيلتها كذلك في بقية الدول العربية، من المفترض تعزيزها مستقبلا، لأن العالم الآن يعرف تحولات سياسية مهمة، ومما لا شك فيه أنها سترخي بظلالها على مجال التعليم كما هو الحال في بقية المجالات.
فبعيدا عن نظرية المؤامرة، والتي لا أتبناها على المستوى الشخصي، فمنذ انطلاق موجة الربيع العربي الأولى أواخر عام 2010 ومطلع2011 والتي همت بعض البلدان العربية، والموجة الثانية من الاحتجاجات في عدة دول عربية وأوروبية كذلك )حركة السترات الصفراء في فرنسا نموذجا(، وبعد تفاقم أزمة الثقة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، وتراجع شعبية الأحزاب العريقة في العالم، وتضاؤل دورها في المشهد السياسي، والحرب الباردة والصراع الاقتصادي بين الصين وأمريكا، وتدفق المهاجرين إلى الدول الغنية )مثل شمال أمريكا واستراليا والاتحاد الأوروبي(، ومشاكل الهجرة المتفاقمة، كل ما سبق كان يوشي بحدوث شيء ما، ولكن لا أحد كان يتوقع اقتحام أو إقحام هذا القاتل الصامت المسمى بفيروس كورونا كوفيد 19 حياة الناس، وإجبار الاقتصاد العالمي على الجمود والركوض، الأمر الذي لم يحصل حتى إبان الحروب العالمية السابقة. فما هو هذا القاتل الصامت؟
بحسب منظمة الصحة العالمية دائما فالكورونا هي عبارة عن سلالة واسعة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان والإنسان.، فهو مرض معد يسببه آخر فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات كورونا. ولم يكن هناك أي علم بوجود هذا الفيروس الجديد ومرضه قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر 2019.
حقيقة إن التعليم عن بعد رغم إقراره، فلا يمكنه تعويض التعليم الحضوري، كما أشار إلى ذلك وزير التربية الوطنية المغربي سعيد أمزازي في تصريح صحفي سابق، لأن تجربة المغرب لا تزال فتية في هذا النمط من التعليم، ننظرا لعدة إكراهات )مرتبطة أساسا بالتجيهيزات(، مستدلا السيد الوزير بإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2015، أن 97 في المائة من الأسر بالمجال الحضري و91 في المائة في المجال القروي تتوفر على تلفاز لذلك فخدمة التعليم عن بعد متوفرة لحد كبير عبر القنوات التلفزية التي تبث جميع الدروس، على حد تعبير الوزير.
وفي المقابل أوضحت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أن نصف الأشخاص الذين يتابعون دروسهم في المدارس والجامعات حول العالم، أي 826 مليون شخص، “لا يملكون جهاز كمبيوتر في المنزل”، وسط اعتماد مبدأ التدريس الإلكتروني في أكثرية البلدان التي تواجه وباء كورونا (كوفيد -19).
وأشارت ذات المنظمة الأممية في بيان على موقعها الإلكتروني، إلى أن “43 بالمئة (706 ملايين شخص) ليس لديهم اتصال بالإنترنت في المنزل”، محذرة من “الهوة الرقمية المقلقة في التعليم عن بعد”.
بالرغم من كل الإكراهات السابقة فإن عملية التعليم عن بعد التي تروم ضمان الاستمرارية البيداغوجية أسفرت في المغرب إلى تحقيق نتائج أولية إيجابية على عدة مستويات، نذكر منها بحسب بلاغ الوزارة:
– معدل مستعملي البوابة الإلكترونية TelmidTICE بلغ حوالي 600 ألف مستعمل(ة) يوميا، كما بلغ مجموع الموارد الرقمية المصورة التي تم إنتاجها 3000 موردا.
– عدد الدروس اليومية التي تبثها القنوات التلفزية الوطنية الثلاث بلغ 56 درسا كل يوم، بما مجموعه 730 درسا منذ انطلاق هذه العملية
– عدد الدروس المصورة التي تم إنتاجها إلى غاية الأربعاء فاتح أبريل الجاري بلغ حوالي 2600 درسا على المستوى المركزي والجهوي والإقليمي.
– ابتداء من الاثنين 23 مارس، أطلقت الوزارة العمل بالخدمة التشاركية « Teams » المدمجة في منظومة مسار للتدبير المدرسي، وذلك لتمكين الأساتذة من التواصل المباشر مع تلاميذهم وكذا تنظيم دورات للتعليم عن بعد عبر أقسام افتراضية.
– عدد الأقسام الافتراضية التي تم إنشاؤها إلى غاية الأربعاء فاتح أبريل الجاري، بلغ 400 ألف قسم افتراضي بالنسبة للمؤسسات التعليمية العمومية، بنسبة تغطية تناهز 52 بالمائة من مجموع الأقسام، و30 ألف قسم بالنسبة للمؤسسات التعليمية الخصوصية بنسبة 15 بالمائة، كما بلغ عدد مستعملي هذه الخدمة في فاتح أبريل، ما مجموعه 100 ألف مستعمل نشيط(ة)، كما أن هذه الأرقام تتزايد يوما بعد يوم.
تبقى هذه الأرقام تصورا أوليا تقريبيا فقط، في انتظار الأرقام النهائية بعد نهاية عملية التقييم الشمولي لنظام التعليم عن بعد لمواجهة تفشي وباء كوفيد 19، والذي تم بمقاربة تشاركية لجميع الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية ) الأساتذة، أولياء الأمور، التلاميذ…(.
وفي النهاية، أثمن الإجراءات المتخذة سلفا، وأقترح ما يلي:
توفير بنية تحتية ملائمة، تشمل وسائل الحماية وشروط السلامة الصحية تعزيزا لسلامة المجتمع.
إنشاء مدارس افتراضية ومقررات موحدة ورقمية، بشهادات معتمدة من قبل الدولة.
إقرار تكوين مستمر في استعمال التكنولوجيا الحديثة لجميع مكونات المنظومة.
ختاما، يعتبر تعيين الرئيس ترامب للدكتور المغربي الأصل )منصف السلاوي( على رأس مشروع تطوير لقاحات كورونا، خير مثال يبرهن على جدوى الاستثمار في العقول، باعتبار ذلك رأس مال الحاضر والمستقبل، وتجارة لا يمكن لها أن تخسر، فتطوير التعليم ودعمه، والاعتراف بالكفاءات الوطنية وتحفيزها معنويا وماديا، سيُمكن لا محالة المغرب من الاحتفاظ والاستفادة من طاقاته والحد بذلك من ظاهرة )هجرة الأدمغة(.
اعلان
اعلان
اعلان