إهداء خاص:
خاطبتني في المساء بصوت مرتعش: أش كدير أولدي؟ أجبتها: أُنهِي مقالا يا أمي. فردت وهي البدوية ابنة الجبل: على الناس ديالنا ديال الجبل؟ أجبتها مبتسما: لا يا أمي هذه المرة على الحرب. فقالت : واش داك أنت لشي حرب أولدي؟ أجبتها في، شرح مبسط، قراءة لأشكال الصراع في المستقبل. فكان جوابها: كاع هاد الحروب اللي دازت مكفاتش، مازال كيفكروا كيفاش ادابزوا غدا. هاذا زمان آخر، زمانكم أولدي غير الله يستر. لهلا اوصلنا ليه. بعدها أقفلت الخط. فكان إقفالا إلى الأبد. رحلت في الصباح وهي رافضة لأن تنتمي إلى عالم الجشع و القتال و الحروب.
إلى روحها أُهدِي الجزء الثاني من مقال “عدوان جرثومي”.
بقلم/محمد أوزين
الدروس “التاجية”، عنوان عريض أصبح سِمَةُ النقاش العمومي الكوني. تعددت الدروس و اختلفت باختلاف التصورات و التمثلات، لكنها تقاطعت في درس واحد و وصف واحد: هشاشة العالم. كيف؟ طويلا ما استأسدت بلدان و أَرهَبت و توعدت بفعل امتلاكها لسلاح نووي و مفاعلات نووية. و زادت هيبتها بسرعة سباقها نحو التسلح، و استعراضها لمعدات حربية مرعبة و مناورات عسكرية مخيفة، ارتعدت لها الفَرائِصُ.
لكن اجتياح الجائحة جاء ليؤكد ضرورة إعادة هذه البلدان المُستَأسِدَةِ لحساباتها. بل أعاد سؤالا جوهريا إلى الواجهة: ما شكل و ما الصورة الحقيقية لحروب المستقبل؟ أكيد حروب هجينة، غير مرئية، غادرة، مركبة، طاحنة، و دائمة. زاد من شبحها تفكك الغرب “dèsoccidentalisation” و بروز العملاق الصيني من جهة، و ظهور وعي جديد و حركات احتجاجية في أمريكا، من جهة أخرى، تُسَائِلُ ثمار الحروب في العراق و أفغانستان، تناهض العدوان، و ترفض الخوض في حروب لا تعود إلا بالخسران.
حروب المستقبل هي في الواقع صراع الحاضر. و كما و صف ذلك محمد حسنين هيكل”الحروب تدور في مجال السياسة، مشاهدها الأخيرة فقط هي التي تنتقل إلى ميادين القتال”. وحقا قال، فوسط الأسلحة تصمت القوانين.
بإمكان بضعة أشخاص و بإمكانيات محدودة، وليس بالضرورة تسخير تكنولوجيا متطورة، الوقع بدول عظمى و جعلها تتكبد خسائر مفجعة صعبة التوقع، كما شاهدنا خلال عدوان 11 شتنبر الذي استهدف ناطحات السحاب التوأم رمز الشموخ الأمريكي.
دراسات أمريكية توصلت بل و أثبتت أن أي هجوم جرثومي ضد أمريكا سيكون من الصعب التعرض له و سيتسبب في الفتك بحياة مآت الآلاف من الأرواح. و هو ما دفع أمريكا إلى تبني نهج تقنو-عسكري جديد سمي بالحرب الوقائية (la guerre préventive). بمعنى إرساء مفهوم جديد للحرب يَرُومُ مراعات التوازن الجيوسياسي و الجيو ستراتيجي الدولي. و هو الطرح الذي تضمنته وثيقة رسمية نشرها البيت الأبيض منذ سنت 2002 بعنوان “الإستراتيجية الأمنية القومية للولايات المتحدة الأمريكية”. حيث ورد في الوثيقة بصريح العبارة “سنتدخل للتصدي عند الإقتضاء، بطريقة وقائية، لأي عمل عدواني يصدر عن الخصوم”. و الواقع أنه يصعب فهم هذه الجملة دلاليا لورود كلمتين متنافرتين (التصدي و الوقاية). لكن المقصود بالطريقة الوقائية كما جاء في الوثيقة، هو استعمال القوة لردع كل سباق نحو التسلح بهدف التفوق أو فقط لمجرد مُضَاهَاة القوة العسكرية الأمريكية.
و هو ما يفسر التوجه الإستباقي الأمريكي باعتماد آليات عسكرية متطورة تتبنى القوة والسرعة و الفعالية. و يفتح الباب على مصراعيه على “رقمنة الحرب” (la digitalisation de la guerre). و هو التفوق الذي استعرضته أمريكا خلال عدة مناورات عسكرية سُخِرَت فيها نُظُم معلوماتية للتحليل و الإستكشاف و المراقبة و الرصد و القيادة الرقمية و آليات للتقصي عبر الأقمار الإصطناعية. وكذا تسخير طائرات الإستطلاع الصغيرة (mini drones) و صور متحركة على الشاشة (images vidéo) تَنقِلُ عبر كاميرات مثبتة على الجنود كل ما يجري في الميدان لتيسير تتبع و دعم عمليات التدخل السريع. الهدف: تبني أنجع الحلول بفعالية و قوة ضاربة و بأقل خسائر بشرية ممكنة، أمريكية طبعا.
هذا التفوق الرقمي عجل ببلورة مفهوم حربي جديد سمي ب “الثورة في الشؤون العسكرية” RMA (Revolution in Military Affairs). و هي حروب في الميدان بدون جنود. هؤلاء يكتفون بتشغيل نُظُم إلكترونية فيما يعرف ب ” I- Warriors”. و هو تقريبا نفس البرنامج الذي عَمِلَت فرنسا على تطويره من خلال “برنامج السنور” ( le Programme Félin) و هو خطة لإعداد و تطوير مهارات مقاتلين بلا هوادة: دقة، سرعة، قوة ساحقة و تدخل مدمر.
و رغم كل هذه المقاربات الإستشرافية الجيوستراتيجية فإنها تظل محدودة حسب رأي العديد من الخبراء في البحث الإستراتيجي: فإذا كانت أوروبا قد شكلت محور العالم الجيوسياسي بِمَعِية حلفائها الأمريكان خلال القرن العشرين، فإن هذا الدور، حسب نفس الخبراء، سيعود إلى آسيا خلال القرن 21. خصوصا مع بروز العملاق الصيني و تحوله إلى مصنع للعالم مما يزيد من طموحه للعب دور الوَصِي على آسيا، و ربما سيعلن في قادم الأيام عن طموحات أخرى. و هو ما يوحي ببزوغ نظام عالمي جديد بدأت ملامحه تتشكل من خلال معسكر إعلامي شرقي و معسكر إعلامي غربي في زمن الجائحة. و هو مشهد سبق للكاتب السياسي و رجل الإقتصاد الأمريكي البارز Lester Thurow أن جسده في مؤلفه الشهير Head to Head “الصراع على القمة” الصادر سنة 1993. حيث أكد “أن الولايات المتحدة كانت في القرن العشرين قوة عظمى عسكرية في عالم ثنائي الأقطاب إلى جانب الإتحاد السوفييتي، فهي قوة عظمى عسكرية وحيدة لاتنازعها في ذلك دولة أخرى. كما كانت قوة عظمى إقتصادية، و لكنها لن تكون كذلك في القرن المقبل، بل ستكون دولة في عالم متعدد الأقطاب” ليقدم Lester Thurow، من خلال مؤلفه، إجابة مستفيضة عن السؤال الذي يطرحه و هو: من سيملك القرن الحادي و العشرين؟
لنعد إلى الحاضر و نتمعن في أولى تمظهرات المعسكرين الشرقي و الغربي و الذي بَرَزَ على المستوى الإعلامي. المتحدث باسم الحكومة الصينية سبق وأن أشار إلى أن الجيش الأمريكي قد يكون من وراء جلب العدوى إلى ووهان. مضيفا فيما يشبه التأكيد، أن الجنود الأمريكيين المشاركين في الألعاب العالمية العسكرية ووهان 2019، ألقوا بالفيروس عن عمد في سوق ووهان للمأكولات البحرية. فكانت الخفافيش مضيفا طبيعيا للفيروس. التعليل: الحرب الإقتصادية التي تشنها أمريكا على الصين، وهي امتداد لحرب جرثومية ليست وليدة اليوم.
رد فعل الأمريكان لم يتأخر، الصين سبب تفشي العدوى نتيجة أبحاث سرية على مدى عقود من الزمن، لتطوير أسلحة بيولوجية. متسائلين هل هي الصدفة أن يتواجد هذا الفيروس في مدينة تحتضن مختبر البحث البيولوجي الوحيد المصنف P4 في آسيا و المحاط بحراسة أمنية مشددة.
و على ضوء تبادل الإتهامات، أصبحنا أمام فرضية السلاح الجرثومي فيما يُعرَفُ ب “العقوبات الذكية” أي نشر الأوبئة و الجراثيم للقضاء على الإنسان و المجال. لكن سرعان ما تدخل الأطروحات العلمية على الخط لتفند هذه الفرضية، معتبرة أن الفيروسات التاجية علميا حيوانية المنشأ. و بناءً عليه يصعب القبول بفكرة أن الفيروس التاجي سلاح جرثومي.
المفارقة هي أن أمريكا و الصين طرفان في معاهدة دولية تعرف باسم “اتفاقية الأسلحة البيولوجية” (BWC). وهي اتفاقية تضم 180 دولة عضو التزمت، بمقتضى المعاهدة، أن لا تطور، أو تصنع، أو تخزن، أو تستعمل أسلحة بيولوجية.
وكيف ما كان الحال، فليس هناك إلا خيط رفيع بين البحث البيولوجي لأغراض مدنية، و البحث البيولوجي لأهداف عسكرية.
و رغم سياسة شد الحبل، فالإدارة الصينية لا تخفي طموحها لتجاوز أمريكا. بل وضعت سقفا لذلك: حدود سنة 2049 و هو تاريخ يصادف الذكرى المائة لتولي القائد الكبير “le grand Timonier” ماو تسي تونغ مقاليد الحكم. و هو الأمر الذي لا تنظر إليه أمريكا بعين الرضى.
فهل يقتدي العملاقين بقول نابليون بونابرت الساخر “في الحرب كما في الحب، لكي ينتهي الأمر لا بد من مقابلة مباشرة”.
(يتبع)