ساهم نظام العولمة الذي يشهده العالم في تدويل كل شيء، فلم يقتصر الأمر في ظل النظام العالمي الحالي على عولمة وتدويل القيم الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، بل تعدى ذلك ليشمل الأوبئة والجوائح. ويعتبر فيروس كورونا مثالا بارزا على مدى سرعة انتشار وتنقل الأشياء كيفما كان نوعها وطبيعتها، في ظل الترابطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها النظام العالمي. ويعتبر المغرب من بين دول القارة السمراء الذي لا يمكن استثناؤه من المنظومة العالمية، حيث تأثر بدوره على غرار باقي دول العالم بجائحة فيروس كورونا المستجد الذي انطلق من مدينة “ووهان” الصينية بالشرق الآسيوي. وعلى غرار باقي دول العالم سارع المسؤولون المغاربة إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات الاحترازية تفاديا لانتشار الفيروس بشكل كبير وسط المجتمع المغربي وتجنيب البلاد وقوع الكارثة. وقد اعتبرت التجربة المغربية لمحاربة انتشار الفيروس تجربة واقعية وجريئة على المستوى الدولي. لكن ذلك لا يمكن أن يسمح للمغرب والمغاربة الانتشاء بالتجربة التي خاضها لمحاصرة الجائحة، لأنها ستكون لها انعكاسات وخيمة على المستوى السوسيو اقتصادي، خاصة في ظل اقتصاد مغربي هش قائم على أساس الزراعة والسياحة وتحويلات العمال بالخارج وتصدير المواد الأولية. مما يفرض بالمقابل على الدولة أيضا اتخاذ حزمة إجراءات اقتصادية واجتماعية مضاعفة لتفادي انهيار اقتصادي خطير قد يكون له وقع كبير على الاقتصاد والمجتمع بعد انتهاء جائحة فيروس كورونا وعودة الحياة العامة إلى طبيعتها.
أولا: منظمة الصحة العالمية وإعلان فيروس كورونا جائحة:
دشن العالم مطلع ق 21 بحرب كونية دارت أطوارها ولا زالت بين المجال العالمي وعدو صغير يدعى فيروس كورونا “كوفيد19″، لكنه عدوا فتاكا استطاع أن يحقق انتصارات على المجال العالمي بما فيه دوله الكبرى ومؤسساته الدولية، نظرا لسرعة انتشاره ومدى إصابته لجميع مكونات المجتمع. فبمرد ظهوره في مدينة “ووهان” الصينية انطلق كالنهار في الهشيم، وإن ترددت منظمة الصحة العالمية في البداية في تصنيف فيروس “كوفيد19” جائحة، فإنها قررت وبشكل رسمي نشر الخبر السيئ في يوم 11 مارس من السنة الجارية تبعا لانتشاره بشكل كبير على المستوى العالمي، وبالتالي أصبح وباء كورونا جائحة حسب منظور منظمة الصحة العالمية، التي حددت مفهوم الجائحة ب”الانتشار العالمي لوباء جديد”، كما صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس غيبريسوس” قائلا : “يسترعي لفظ جائحة” المزيد من الاهتمام. بيد أن هناك ألفاظا أخرى أكثر أهمية: الوقاية والاستعداد والقيادة السياسية والافراد. نحن معا في هذه المعركة” . ففي ظرف قياسي وبسرعة متناهية انتشر الفيروس بين دول العالم، وأصبح من الصعب التحكم في حركته عبر الحدود وبين القارات، بحيث لم تسلم أي دولة من دول العالم من ضرباته خاصة بالدول المتقدمة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، إذ لم يحل اليوم 18 من مارس من سنة 2020 حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية ما مجموعه 200106 حالة إصابة مؤكدة و8010 حالة وفاة مقابل شفاء 82813 حالة في 167 دولة . ومن تم بدأ استعداد الدول لخوض حرب حقيقية ضد هذا العدو الحقيقي . فعلى مستوى العلاقات الدولية تسارعت معظم دول العالم إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بالحدود والسيادة والأمن القومي، في ظل تراجع وهشاشة النظم الإقليمية والدولية التي أنتجتها النيوليبرالية، وخلقت ما يسمى بالمجتمع الدولي الذي أفرز مجموعة من العلاقات المتشابكة عبر توقيع العديد من المعاهدات والتكتلات ومنظمات التعاون…التي أثبتت فشلها في مواجهة عدوى الأوبئة في ظل التنافس الشديد بين القوى الكبرى، وبالتالي لم يتبق أمام دول العالم سوى حشد إمكانياتها الذاتية لمواجهة الفيروس العدو “فيروس كورونا” الذي أعاد من جديد طرح سؤال وجودي يتعلق بالدولة ومدى قوتها وحضورها الفعلي للحفاظ على أفراد المجتمع ومصالحه العليا عبر تحقيق الانتصار وهزم العدو، إذ غالبا ما كان ينظر لقوة الدولة لمحاربة العدو، فيما تتوفر عليه من قوة عسكرية وقيادة سياسية، لأن لخوض الحرب لا بد لها من إمكانيات عسكرية فهي العمود الفقري للدولة، تخوض الحرب في الميدان وتضع الاستراتيجيات وتحمي الحدود، وقيادة سياسية لتوفير الجو الملائم للذهاب بعيدا في الحرب وتحقيق الانتصار، عبر تعبئة الموارد المالية والبشرية وخلق نوع من الإجماع الوطني الداخلي. إنها الحرب التي تخوضها الدول الآن ضد عدو يتميز بقدرته على التخفي والسرعة في الانتشار وعزل الدول وقطع التعاون بينها، وهي حرب شبيهة في كثير من جوانبها بالحرب التقليدية، بمعني أنها حرب مكتملة الأكان، ركنها الأول فيروس كورونا الذي يريد السيطرة على البلدان وليس الأرض والفتك بالبشرية، مقابل قوات مسلحة غير تقليدية، عناصر مسلحة بسلاح مغاير، سلاح العلم والمعرفة والخبرة موجه لمحاصرة العدو في انتظار القضاء عليه، لا تصيب بشرا ولا أرضا ولا بنية تحتية. وبالتالي تغير مفهوم قوة الدولة في ظل جائحة كورونا، حيث انتقل مفهوم قوة الدولة، من الحديث على ما تتوفر عليه من عتاد عسكري بمختلف أنواعه، إلى الحديث عن ما تتوفر عليه الدولة من أدوات التعقيم وأجهزة التنفس وقياس حرارة الجسم وعدد المستشفيات ومدى توفرها على الأسرة ووسائل الإنعاش. قوة الدولة تكمن في جاهزية منظومتها الصحية وعدد أطقمها الطبية والشبه الطبية المؤهلة والمدربة، كما تكمن قوة الدولة في ظل الجيل الجديد من الحروب في مدى قدرتها على تعبئة مواطنيها وتحديد حركتهم وإقناعهم بالعزل الذاتي والتنازل الطوعي عن جزء من حريتهم لفائدة الانضباط لما تتخذه من إجراءات استثنائية . إنه المعيار الجديد لقياس مدى قوة الدول وجاهزيتها لخوض هذه الأنواع الجديدة من الحروب.
وبالتالي في ظل الواقع الراهن، هل يمكن الحديث عن مفهوم جديد لقوة الدولة المتمثل في “القوة الحيوية” القادرة على استيعاب المعايير الجديدة، حيث حفظ الحياة هي الغاية، والديناميكية هي المقاربة، والبعد البيولوجي للحرب هو الأبرز ؟.
ثانيا: إفريقيا في مواجهة كورونا:
بمجرد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية وباء كورونا جائحة عالمية يوم 11مارس من السنة الجارية، بدأ الخوف والقلق ينتاب الدول الافريقية ودول العالم الثالث بشكل عام، هذا الخوف كان نابعا من كون المنظومة الصحية بمعظم الدول الإفريقية غير قادرة على احتواء هذا الفيروس الجديد، وقد ازدادت درجة الخوف في حالة تفشي الفيروس بشكل كبير، خاصة في ظل الظروف الدولية الحالية الملائمة لانتشار الفيروس وتوسع دائرته. إذ تعتبر الدولة التي انطلق منها الفيروس الصين لها علاقات تجارية وطيدة مع معظم الدول الافريقية، حيث تعتبر ثاني شريك تجاري للقارة الافريقية. لكن المفاجأة هو أن الدول الافريقية أثبتت بالملموس أن لها من الإمكانيات البشرية والقيادات السياسية ما يمكنها من تجاوز هذه المحنة بأقل الأضرار. فقد اتخذت معظم الدول الإفريقية حزمة من الإجراءات لتفادي تفشي الوباء ببلدانها ومن بينها، منع السفر خارج البلدان الأصلية مع منع دخول الأجانب خاصة من البلدان التي اعتبرت في البداية بلدان موبوءة، وكذلك توقيف كل الأنشطة الاقتصادية سواء كانت صناعية أو تجارية أو فلاحية(إغلاق الأسواق الأسبوعية في القرى والبوادي)، كما قامت العديد من الدول الافريقية بتوفير المواد المعقمة وأدوات التعقيم، بل أكثر من ذلك أقدمت العديد من الدول الإفريقية على توقيف الدراسة وإغلاق المدارس والجامعات بشكل كلي.
وإذا كانت هذه الإجراءات قد انعكست بشكل ايجابي على مستوى تدني نسبة تفشي الفيروس، إلى درجة أن العديد من الجهات طرحت علامات استفهام حول مدى حقيقة ضعف تفشي الفيروس بالقارة، فإن حزمة الاجراءات السالفة الذكر ستكون لها لا محالة انعكاسات وخيمة على الاقتصاد والمجتمع بالدول الإفريقية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الاقتصادات الإفريقية القائمة على التصدير والفلاحة والسياحة…مما سيكبد اقتصاد الدول الإفريقية المليارات من الدولارات، وسيزداد الأمر استفحالا في ظل الضغط المالي الإضافي الذي ستتحملها خزينة الدولة والمتمثل في المصاريف التي وجهتها حكومات الدول الإفريقية للمنظومة الصحية من أجهزة ونفقات العلاج والمختبرات والأمن…
لكن كل هذا لم يمنع العديد من الدول الإفريقية من التضحية بالاقتصاد وإعطاء الأولوية لصحة المواطنين والحفاظ على أرواحهم. وبشكل عام، أدى تفشي فيروس كورونا المستجد إلى تعطيل كل البنى الاقتصادية وباقي الأنشطة المرتبطة بها من مراكز للتسوق وشركات الطيران والفنادق والمنتزهات، فأصبحت المدن تعيش ركودا غير مسبوق والسكان يعيشون عزلة تامة لم يعهدوها من قبل.
ثالثا: التجربة المغربية في مواجهة كورونا:
برزت الفلسفة الليبرالية الجديدة بشكل كبير منذ الثمانينات من ق 20، وانبنت على ركائز أربعة وهي: الخوصصة وإلغاء القيود والسواق الحرة والنزعة الفردية، باعتبارها بناء مضادا لحماية مصالح المجموعة أو المنحى الجماعي أو الاشتراكي، وتعمقت أكثر خلال التسعينات من ق 20، بعد ظهور تطورات جديدة أهمها إلغاء القيود المالية والعولمة الاقتصادية التي عجلت بطفوح مجموعة من الاتفاقيات التجارية في ظل تدفق رؤوس الأموال الحرة، وأصبحت بذلك رؤوس الأموال والعولمة من المظاهر البارزة ل النيوليبرالية . ولم يقتصر تبني الليبرالية الجديدة على الدول الكبرى فقط، بل شملت أيضا باقي دول العالم، خاصة بعد تبني الأيديولوجية الجديدة من طرف المؤسسات المالية الدولية، التي فرضت على الدول النامية مجموعة من الإصلاحات البنيوية. ويعتبر المغرب من بين البلدان الإفريقية الذي تبنى توصيات صندوق النقد الدولي بخصوص الإصلاحات النيوليبرالية المعروفة باسم “التقويم الهيكلي” منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين قرر المسؤولون المغاربة “التخلي عن دعم الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، ونقل عدد من المرافق والمؤسسات العامة إلى ملكية القطاع الخاص، والتحول نحو اقتصاد موجه نحو التصدير لا سيما في الزراعة وفتح السوق المغربي أمام المنتجات الأجنبية، وخفض الدعم للمنتجات الأساسية، مثل القمح والسكر والزيت، وحت إلغاء دعم البنزين. وقد تعمقت هذه الاتجاهات الاقتصادية من خلال اتفاقية التجارة “الحرة” التي وقعها المغرب في منتصف التسعينات” . فكان من أبرز نتائج هذه السياسة التي نهجها المغرب على المستوى المجالي، ظهور مغربين متناقضين “مغرب المشاريع الضخمة: ميناء طنجة المتوسط والطرق السريعة والقطارات العالية السرعة، والسيارات الفاخرة والفيلات والقصور، والمنتجعات السياحية ذات حمامات السباحة الكبيرة وملاعب الغولف”، مقابل “المغرب الآخر الذي يجد نفسه في مرتبة متأخرة للغاية في مؤشر التنمية البشرية، تتأرجح بين 126 و 130 من اصل 188 دولة في السنوات الأخيرة”. أما على المستوى الاجتماعي فقد أفرزت هذه السياسة موجة من الاحتجاجات المتوالية والممتدة منذ التسعينات من القرن الماضي نتيجة التفاوتات الصارخة والضغط الاجتماعي في صفوف عامة المغاربة، مقابل سياسة شمولية ممنهجة من طرف شبكة المخزن وهيمنته على اتخاذ القرارات حيث “جميع القرارات الاقتصادية والسياسية تقريبا في البلاد وسط تبني النيوليبرالية الاقتصادية، من خلال وجود قوى مسيطرة تمدد استعمارا جديدا، والخصخصة، والتنمية الموجهة نحو التصدير، وأخيرا تغير المناخ، وخاصة الأحداث المتطرفة مثل الجفاف والفيضانات” .
في ظل هذا الواقع السوسيواقتصادي تعرض المغرب كباقي البلدان الافريقية للإصابة بعدوى فيروس كورونا بشكل مبكر، لذلك بادرت القيادة السياسية بالبلاد إلى أخذ الأمر بالجدية التامة عبر اتخاذ مجموعة من الإجراءات الجريئة، التي تركت صدى واسعا في الأوساط العالمية، وأضحت التجربة المغربية موضوع اهتمام العديد من الجهات، بل تصدرت مواضيع العديد من الجرائد الدولية، خاصة منها الفرنسية والاسبانية. فقد أوردت إحدى الصحف الفرنسية مقالا تحت عنوان “إدارة المغرب لأزمة كورونا محل إعجاب داخليا وخارجيا” ، وقد افتتح المقال بملخص أوجز فيه صاحبه “أن أزمة كوفيد-19 فتحت أعين العالم على اختلاف طرق الادارة في أوقات الأزمات، وأظهرت عجز كثير من الحكومات أمام فيروس كورونا وتداعياته التي لا يمكن التنبؤ بها، إلا أن أداء المغرب قد أثار الإعجاب داخليا وخارجيا، إلى حد اعتباره نموذجا يحتذى. وقد أشار صاحب المقال إلى أن المغرب لم يثر إعجاب المجتمع الدولي فحسب، بل أثار إعجاب المغاربة أنفسهم، معتمدا في ذلك على نقطتين أساسيتين ساهمتا في نجاح التجربة المغربية، أولاهما استغلال الوقت والاستفادة من التجارب الأجنبية، حيث أن المسؤولين المغاربة كانت عينهم على أوربا الأقرب جغرافيا للمغرب، حيث إنه بمجرد غزو الوباء لأوروبا قرر المغرب إغلاق حدوده وتفرغ لاحتواء الوباء داخليا. وهنا يصدق كلام المرحوم الحسن الثاني، حينما وصف المجتمع المغربي في إحدى خطاباته ب”مجتمع التحدي”، حيث تجند المغاربة حكومة وشعبا لمواجهة الوباء مؤمنين بوحدة المصير، عبر الامتثال لجميع الاجراءات التي اتخذتها السلطات المغربية، ومن أجل نجاح تلك التدابير أعلنت القيادة السياسية للبلاد في شخص ملكها محمد السادس عن إنشاء “صندوق كوفيد-19” لتمويل التدابير وتجهيز المستشفيات، حيث تم حل مشكل المعدات وتضاعف عدد أسرة الانعاش في وقت قياسي، كما مكن الانتاج الوطني للأقنعة والملابس الواقية والأجهزة من تحقيق الاكتفاء الذاتي دون اللجوء إلى الخارج، والدخول في المنافسة الشديدة على المستوى الخارجي، يضيف صاحب المقال .
وثاني عوامل نجاح التجربة المغربية، المبادرة والتخطيط، حيث بالإضافة إلى الإجراءات السالفة الذكر، تم إنشاء مجموعة من الوحدات الطبية، مثل المستشفى العسكري ببنسليمان وآخر بسعة 700 سرير بمعرض الدار البيضاء. فضلا عن ذلك خصصت صناعة النسيج لتغطية حاجيات البلاد من الأقنعة وملابس العمل، في حين تكلفت جهات أخرى بصناعة أجهزة التنفس بأسعار منخفضة.
وخلص صاحب المقال إلى أن قوة المغرب تمثلت في “حفاظه على الصناعة لسوقه الداخلية الأصغر حجما وسوقه الإفريقية الأكبر حجما والأقل ربحا، وهو ما لم تستطعه فرنسا، كما ختم الكاتب مقاله بقوله “أن المغرب يستعد الآن لما بعد كورونا، واعيا بالمتغيرات المهمة التي تحدث بالعالم، والتي ستؤثر حتما في العلاقات الدولية والإقليمية” . وهي نفس المعطيات الخاصة بالتجربة المغربية لمواجهة جائحة كورونا، التي أوردتها بعض الصحف الإسبانية، ، والتي أشارت إلى أن المغرب وبفضل الإجراءات الحاسمة التي اتخذها تموقع ضمن طليعة الدول على الصعيد العالمي، التي تمكنت من إبطاء توسع انتشار فيروس كورونا المستجد، في الوقت التي فشلت فيه العديد من الدول التي كانت إلى عهد قريب تعد من الدول المتقدمة .
رابعا: الانعكاسات المترتبة عن جائحة كورونا بالمغرب.
شيء طبيعي ستكون للوباء التاجي كوفيد 19، شأنه في ذلك شان باقي الأوبئة التي ضربت المجتمعات البشرية منذ القديم، انعكاسات كبيرة على مستويات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية، ستختلف بين دولة وأخرى وقارة وأخرى، وذلك تبعا لنسبة تفشي الفيروس. والمغرب باعتباره جزء من المنظومة العالمية سيتأثر لا مشاحة بذلك على المستويات السالفة الذكر.
فيروس كورونا ولجنة النموذج التنموي:
بتاريخ 12 أكتوبر من سنة 2018 وبمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة، أعلن الملك محمد السادس في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة عن تكوين لجنة خاصة لنموذج تنموي جديد بالغرب حيث قال: “قررنا تكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات، وترتيبها، وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منطور استراتيجي شامل ومندمج، على أن ترفع إلى نظرنا السامي، مشروع النموذج التنموي الجديد، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله”. وتهدف هذه المبادرة من طرف القيادة السياسية للبلاد- كما يبدو من خلال الخطاب- إلى إشراك كل الفاعلين الجادين والكفاءات الوطنية وجميع القوى الحية بالبلاد في هذا الورش الوطني الهام، بهدف صياغة نموذج تنموي جديد يستجيب لطموحات وتطلعات جل الفئات المغربية، في ظل فشل النموذج التنموي الحالي. والآن، قد يؤدي تأثير مضاعفات فيروس كورونا، وتعثرات السياسات النيوليبرالية إلى تقويض صلاحية اللجنة الخاصة بصياغة النموذج التنموي، والدليل على ذلك الطلب الذي تقدمت به اللجنة إلى القيادة السياسية والسيادية للبلاد، حيث وافق الملك محمد السادس على تأجيل تقديم تقرير اللجنة لمدة ستة أشهر إضافية، والذي كان من المرتقب أن تقدمه اللجنة عند نهاية يونيو 2020، لتحديد تحديات النمو وتصميم سياسات من شأنها أن تضمن توزيعا أفضل للثروة عبر التراب المغربي ومختلف الطبقات الاجتماعية. ووعيا منها بالظروف المستجدة بسبب انتشار فيروس كورونا، و”بالنظر إلى السياق الحالي المتسم بتعليق الأنشطة الميدانية، وحرصا على الاستمرار في نهج مقاربتها التشاركية المبنية على الاستماع ورصد مقترحات المواطنات والمواطنين، ارتأت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ملائمة منصتها الرقمية مع الوضع الحالي معتمدة في ذلك على الإمكانيات التقنية المتوفرة، بحيث سيكون متاحا للمواطنين الذين يرغبون في ذلك الولوج للمنصة و اختيار القسم “جهتكم” للإدلاء بآرائهم ومقترحاتهم المتعلقة بتنمية الجهة التي ينتمون إليها بالإضافة إلى التجارب الناجحة التي يودون مشاطرتها مع أعضاء اللجنة. ونظرًا للانعكاسات الهيكلية المترتبة عن وباء كوفيد 19 على الصعيد الوطني والدولي، يدعو أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي المواطنات والمواطنين إلى مشاطرتهم الدروس المستخلصة خلال هذا الظرفية الصعبة والإجراءات التي يرونها ضرورية لتجاوز هذه الأزمة على الأمدين القصير والمتوسط، وقد تم إحداث قسم مخصص لهذه الغاية ضمن المنصة الرقمية للجنة. ومن الارتسامات الأولية لبعض المتتبعين أنه “من المرجح أن يستند التقرير الجديد على فلسفة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية ذاتها” .
الانعكاسات السوسيواقتصادية لوباء كورونا:
سبقت الإشارة في التقديم، إلى أن الاقتصاد المغربي اقتصاد هش قائم على الزراعة والسياحة وتحويلات العمال بالخارج وتصدير المواد الأولية. ومن المؤكد أن توقف الأنشطة لمدة تزيد عن الشهرين سيكبد الاقتصاد الوطني خسائر كبيرة خاصة في ظروف دولية وداخلية غير مريحة. فعلى المستوى الدولي تشير كل التقارير أن الاقتصاد العالمي يشهد منذ مدة أزمة اقتصادية نتيجة الصراعات والخلافات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وبالتالي وحسب بعض المراقبين، فإن هذه الحرب وغيرها من التطورات الأخرى ستؤثر بشكل أكبر على الاقتصاد العالمي، حيث خفض صندوق النقد الدولي توقعاته بالنسبة للنمو الاقتصادي العالمي خلال عام 2020 إلى 3,5٪، بل حذر من أن النمو العالمي قد ينخفض إلى النصف، إذا ازدادت حدة النزاع بين الطرفين، قبل أن يظهر الفيروس التاجي كوفيد19 وتصاب الأنشطة الاقتصادية العالمية بالشلل. وإذا كان الأمر يتعلق بالاقتصادات الكبرى كالاقتصاد الأمريكي والصيني واقتصادات دول أوروبا…فما بالك بالاقتصادات الناشئة أو في طور النشأة كما هو الشأن بالنسبة للاقتصاد المغربي.
انطلاقا من التقارير الصادرة عن مجموعة من الجهات الرسمية المغربية ، سيشهد الاقتصاد المغربي تراجعا مهما في مستوى النمو في الفصل الثاني من سنة 2020، بسبب تأثيرات الوباء التاجي، حيث ينتظر أن يحقق الاقتصاد الوطني نموا يقدر ب 1,1٪، خلال الفصل الأول من 2020 و 1,8-٪ في الفصل الثاني، عوض 1,9+٪ و 2,1+٪ على التوالي المتوقعة في غياب تأثيرات الأزمة الصحية. ويعزى هذا التراجع لنسبة النمو إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الخارجي، ينتظر أن يشهد الطلب الخارجي الموجه للمغرب تراجعا يقدر ب ظل ظرفية دولية تتسم بتزايد التخوفات الناتجة عن تسارع اتشار الوباء حول العالم واثاره السلبية على صحة واقتصاد البلدان. حيث ستشهد المبادلات التجارية العالمية تراجعا ملموسا، فيما سيواصل الاقتصاد العالمي تباطؤه بوتيرة أشد حدة من الفصل السابق. في المقابل، ستظل الضغوطات التضخمية مرتبطة بتطور أسعار النفط والمواد الغذائية في الأسواق العالمية في ظل ارتفاع العرض مقارنة مع الطلب العالمي من المواد الطاقية. في ظل ذلك، سيشهد الطلب الخارجي الموجه للمغرب تراجعا بنسبة 6٪، خلال الفصل الثاني من 2020، متأثرا بانخفاض الواردات وخاصة الأوروبية، مما سيساهم في تراجع الصناعات المحلية الموجهة للتصدير .
أما على المستوى الداخلي، فانخفاض الاقتصاد المغربي خلال النصف الثاني من سنة 2020، يعزى حسب ذات المصدر إلى تقلص القيمة المضافة دون الفلاحة بما يعادل النصف من وتيرة نموها، موازاة مع توقف معظم أنشطة المطاعم والفنادق، وكذا تقلص 60٪ من أنشطة النقل و 22٪ من أنشطة التجارة، إضافة إلى تراجع الخدمات المؤدى عنها، يرجح أن تنخفض القيمة المضافة للقطاع الثانوي ب 0,5٪، متأثرة بتراجع الصناعات التحويلية في ظل انخفاض الطلب الخارجي وتقلص صناعة السيارات والنسيج والإلكترونيك. بدوره سيتأثر قطاع المعادن من تراجع الطلب على الصناعات الكيميائية عقب انخفاض صادرات الحامض الفوسفوري .
ونظرا للارتباط الوثيق بين الاقتصادي والاجتماعي، فمن المؤكد أن تأزم الاقتصاد سيخلق لا محالة أزمة اجتماعية في صفوف العديد من الفئات الاجتماعية. صحيح أنه من السابق لأوانه أن ن نعرض تقييما دقيقا ومفصلا للوضعية الاجتماعية في ظل غياب معطيات حقيقية أو تقريبية، ولكن ما يمكن التأكيد عليه هو أن تأثير الفيروس التاجي سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الفقر البطالة خاصة في صفوف الفئة الشابة، نظرا لتضرر القطاع الغير المهيكل لأنه يشغل فئة عريضة من الشباب المغربي، إضافة إلى توقف العديد من الشركات والمقاولات الشابة سواء الصغيرة أو المتوسطة إما بشكل كلي أو شبه كلي داخل الأوساط الحضرية، كما ستزيد حدة الجفاف المرتبطة بقلة الأمطار وعدم انتظامها، من الرفع من نسبة البطالة في صفوف الفئة القروية المرتبطة بالقطاع الفلاحي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد آثرنا عدم الحديث عن النتائج البشرية من حيث عدد الإصابات وعدد التعافي وعدد الوفيات، لأن الأزمة الصحية لا زالت لم تنته بعد، وبالتالي فإن الحديث عن أي معطى يتعلق بهذا الجانب فهو قابل للتغير والتطور. كما تجدر الإشارة في هذا الإطار(الجانب الاجتماعي)، إلى أن أسلوب الحجر الصحي الذي نهجه المغرب لمدة تزيد عن الشهرين ستكون له تأثيرات اجتماعية بارزة سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع ككل .
خلاصة القول، إن جل المعطيات والتوقعات المذكورة ستظل قابلة للتغيير موازاة مع ظهور معطيات جديدة في ظرفية تتسم بتزايد الشكوك حول مدة الأزمة الصحية و أثارها على النشاط الاقتصادي وكذلك حدة تأثير مختلف التدابير والبرامج المتخذة لدعم الاقتصاد الوطني.
مغرب لعصر ما بعد كورونا:
إذا كان المغرب قد اتخذ مجموعة من الاجراءات الجريئة لمواجهة تفشي الوباء التاجي كوفيد 19 بشكل مبكر، في مقدمتها إنشاء صندوق كوفيد 19 للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فإن المسؤولين المغاربة مطالبين أيضا برفع التحدي والإعلان عن حزمة من الإجراءات الواقعية لتفادي سقوط الاقتصاد والعباد في أزمة خانقة لا يحمد عقاباها ما بعد انتهاء فترة أزمة كورونا، على شاكلة ما قامت به جل دول العالم بما فيها الدول ذات الاقتصادات المتقدمة لإعادة عجلة الاقتصاد إلى الدوران من جديد. ومن جهة ثانية، وهذا هو الأهم، هو أن الدولة المغربية بجميع مكوناتها، خاصة من بيدهم زمام الأمر مطالبين أكثر من أي وقت مضى بتغيير اتجاه البوصلة. فقد أثبتت الحرب مع الفيروس التاجي كنمط جديد من الحروب، على أن قوة الدولة لا تكمن في ما تمتلكه من ترسانة عسكرية متطورة، بل على الدولة أن تستثمر في عناصر القوة التي تتجه نحو الداخل وليس إلى الخارج. فقد أثبت فيروس كورونا وبالملموس أن الرهان على الخارج رهان فاشل، وبالتالي، ومن أجل تحقيق الأمن القومي لا بد من التركيز على أسس متينة، قوامها قوة المنظومة الوطنية ومحورها الانسان، الانسان المنتج والمقاتل. ففي الحرب على كورونا حضر الإنسان وغابت الآلة، حضر الطبيب والأستاذ والمعلم ورجال السلطة ورجال النظافة…هؤلاء هم الجنرالات والجنود الحقيقيون، هم من كانوا في الصفوف الأولى للحرب، هم من صوبوا الضربات القوية للعدو. ولا يمكن الحصول على هؤلاء إلا بإعادة النظر بشكل جذري وعميق في أولوياتنا، فالأولوية من الآن، يجب أن تكون للعلم والعلماء والبحث العلمي. ولن يتأت لنا ذلك إلا بشرط أساسي، وهو رد الاعتبار والاستثمار بشكل استراتيجي في منظومتنا التعليمية ومختبرات البحث العلمي، آنذاك سنكون أقوياء وقادرين على خوض مثل هذه الحروب غير التقليدية والانتصار فيها. فلينظر الانسان كيف حل الأستاذ والطبيب ورجل السلطة…محل التفاهة والسفسطة في وسائل الاعلام، التي فرضت عليها يوميات الحرب أن تفرد للمحتوى العلمي مساحة غير مسبوقة.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد أثبتت جائحة كورونا أن الأولوية لتنشيط وتطوير الاقتصاد الوطني لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات الحيوية، لتفادي الاعتماد على الخارج(صنع الكمامات، أدوات التعقيم ومواده مثلا). فقد أدى انتشار الوباء إلى إغلاق الحدود وشل حركة النقل وتوقف حركة الأشخاص والبضائع، وانكبت الدول على إيقاف تفشي الفيروس في بلدانها، غير آبهة بما يجري في دول الجوار والدول الصديقة والشقيقة. وفي حالة لا قدر الله استمرت الأزمة أكثر مما هي عليه، سيتأثر المخزون المادي(الدواء والغذاء..) والمعنوي(المجهود الفكري والبدني للعنصر البشري) للدولة، وبالتالي من الدروس المستخلصة من جائحة كورونا، هي إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وتوجيهه لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الاستهلاكية والأساسية كالدواء والغداء والماء والطاقة.
وفي مجال العلاقات الدولية، فقد أثبت الجائحة فشل المنظومة الصحية للقوى الكبرى، كما فشلت منظمة الصحة العالمية في مواجهة الفيروس التاجي كوفيد 19، وبالتالي وجب على المغرب باعتباره دولة إفريقية لها مكانتها بالقارة، تعزيز التعاون مع التجمعات والمنظمات الإقليمية في مجال البحث العلمي، على غرار سعيه لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع دول القارة، وليس ذلك بعزيز على الدولة المغربية، التي أثبتت قدرتها على معالجة مشاكل الهجرة ومحاربة الإرهاب والتطرف والمخدرات على مستوى القارة، كما دأبت على إرساء مبدأ التضامن في الفضاء الافريقي الذي يشكل عمقا استراتيجيا للمملكة زمن الرخاء، فكيف لا في زمن الشدة والمحنة، محنة كورونا فيروس، وهنا تأتي المبادرة التي أطلقها العاهل المغربي، والتي تذهب إلى أبعد من التدابير المحلية المغرقة في المحلية لمكافحة الجائحة، إلى خطوة من شأنها تعزيز الجهود الافريقية لوقف انتشار الوباء بالقارة. وفي هذا الإطار اقترح العاهل المغربي إطلاق مبادرة لرؤساء الدول الافريقية من أجل إرساء إطار عملياتي لمواكبة مختلف مراحل وقف انتشار الوباء، وهي مبادرة تنطلق من مبدأ وقناعة ان توحيد الجهود أنجع من التدابير الفردية في التعاطي مع الجائحة التي تنذر بهنات اقتصادية وصحية في القارة الافريقية. وتتيح المبادرة المغربية تقاسم التجارب والممارسات الجيدة لمواجهة التأثيرات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة . ويعتبر العاهل المغربي “هو أول رئيس دولة من القارة يروج لمبادرة أفريقية للتعامل مع جائحة فيروس كورونا”. حسب صحيفة “توتال نيوز الأرجنتينية” .
خلاصة القول، إن جائحة كورونا، أثبتت أن المغرب تاريخيا بلد التحديات قادر على الصمود والمواجهة قيادة وشعبا في وجه كل الصعوبات كيف ما كانت طبيعتها ونوعتها بإمكانياته الذاتية والخاصة، البشرية والمادية. كما لقنت الجائحة المغاربة درسا بكون الاعتماد على الخارج هو رهان فاشل، وبالتالي يجب على المغرب أعادة ترتيب أولوياته بالاعتماد على السياسة الداخلية، عبر تطوير منظومته التعليمية والصحية، وإعادة النظر في منظومته الاقتصادية. ولعل الفرصة مواتية أمام المغرب والمغاربة لخلق مغرب ذو نموذج تنموي جديد، مغرب جديد لعصر ما بعد كورونا.